bannerbanner
الأيام الخوالي: قصة حب مريرة وقعت أحداثها في تركستان
الأيام الخوالي: قصة حب مريرة وقعت أحداثها في تركستان

Полная версия

الأيام الخوالي: قصة حب مريرة وقعت أحداثها في تركستان

Настройки чтения
Размер шрифта
Высота строк
Поля
На страницу:
5 из 7

وكانت كوموش تجيب بصوت بالكاد يسمع: "أتمنى أن تجلب لي السعادة."

أجلسنها في أهم مكان بالغرفة، فيما توزعت الفتيات بالجلوس حولها على شكل نصف دائرة. ولسبب ما صمتن جميعهن بشكل مفاجئ. وصرن جميعهن ينظرن إلى كوموش صاحبة الحفل نظرات ذات معانٍ مختلفة. ولسبب ما شعر الجميع بشيء من الحزن. فما الذي كن يفكرن فيه؟ ولماذا شعرن بالحزن والكآبة؟ من الصعب الإجابة. فقلوب الفتيات العذارى من الصعب اختراقها وسبر أغوارها.

جلست الفتيات في الغرفة مثل إكليل من الزهور. الوجوه الهادئة التائهة في الأفكار منحتهن جاذبية وسحرًا فريدًا، ضاعفت جمالهن مئة مرة. وإذا اضطررنا إلى اختيار الأجمل بينهن لما استغرق الوقت كثيرًا مثلما حدث سابقًا، ولم نكن لنتردد من فورنا في اختيار كوموش. كانت بمثابة زهرة فريدة الجمال بين نظيراتها من زهور الأقحوان، وبدت مثل بدر بين النجوم. ومع ذلك، استمر السكون يسيطر على الغرفة.

ومثل كل حفل أو وليمة أو تجمع، هناك دومًا من يقوم بدور سيد الاحتفال أو أولئك الذين يحيون الاحتفال، ويبعثون فيه النشاط. وهنا ظهرت كولسن هانم التي لم يرق لها هذا الصمت والحزن اللذين سادا بين الحضور، وكسرت حاجز الصمت بقولها: "لماذا اجتمعنا هنا؟ لماذا نجلس هكذا، لماذا نطرق رؤوسنا بحزن إلى الأرض؟ هل جئنا إلى هنا في جنازة؟"

وأيدتها السيدة هانم قائلة: "لا تكتئبن يا صديقاتي. كلنا ينتظرنا المصير نفسه. قفي يا سَوْرة، أشعلي نارًا في الفناء وقومي بتدفئة الطبول لنعزف. وأنت يا أناركول أمسكي بالعود. وأنت يا كوموش، كفى استسلامًا للأفكار الحزينة، ابتسمي للحضور رجاءً. غدًا سوف تندمين على كل دقيقة قضيتها في فكر ومعاناة لا داعي لها". جعلت كلمات هانم بيبي الجميع ينفجر ضاحكًا، حتى إن كوموش ابتسمت على مضض ابتسامة خفيفة، وأطلقت أسنانها البيضاء اللؤلؤية لفترة وجيزة لتطل من بين شفتيها الياقوتية.

بعد ذلك سيطر المرح على الجميع، وعزفت أناركول على العود موسيقى أغنية "الصديقات" الشهيرة، ومست بعزفها الجميل أعماق قلوب الفتيات العذارى الرقيقات. أما السيدة هانم، فلم تطل في مطالبة الأخريات بالرقص، وانبرت قافزة من مقعدها تتمايل مع الموسيقى.

خلق المزيج من قرع الطبول وصوت العود حالة من الانسجام الفريد، مما منح الحفل نشاطًا وحيوية ومرحًا زائدًا. وبدأت الأيادي ترتفع وتصفق بصوت عال. وأصبح الرقص مفعمًا بالحيوية. أخيرًا، بعد إغلاق أبواب الغرفة جميعها، وإضاءة الشموع على الأرفف، وصل إيقاع الحفل إلى ذروته. سلطت أضواء الشموع المتلألئة المتطايرة بفعل تيارات الهواء على وجوه الشابات المنتشيات. أعاد الاحتفال إلى الأذهان جنيات الجميلات من قصص "ألف ليلة وليلة".

الآن بدأ عزف العود لأغنية "إيفور"، وفي الخلفية صوت الطبل الجميل يصدح بلطف ورقة. كانت كولسن هانم تتمايل في انسجام مع الموسيقى، فيما كانت أنغام العود تمس قلوب الحضور ودق الطبلة يتسارع أكثر فأكثر حتى أصبح حفل الزفاف مفعمًا بالحيوية، وتملكت الموسيقى من حواس الحاضرين. أخذت كولسن هانم تتمايل بهدوء ونعومة في أرجاء الغرفة في انسجام وانصهار تام مع الأنغام الراقصة، وهو ما جعل أجساد الفتيات الحاضرات ترتجف من فرط السعادة والنشوة.

ومع ذلك، لا يمكن القول إن كوموش كانت منهمكة أو مهتمة بهذا المرح، أو تشعر بالسعادة والفرح مما يحدث حولها، أو تستمتع بها مع الآخرين. على الرغم من أنها كانت حاضرة جسديًا وسط الحضور، فإن عقلها كان شاردًا في مكان آخر بعيد: كانت عيناها تشاهدان الفتيات يرقصن، لكن أفكارها سرحت بعيدًا إلى أرض أخرى.

ومما سبق يمكن للمرء أن يعتقد أنها كانت تشعر وكأنها تجلس في جنازة لا احتفال مبهج.

بعد ساعتين من الصخب، أصيب الحاضرون بالتعب وتوقفت الفتيات عن الرقص. جلست الهوانم كولسن وهانم سويًا بجوار بعضهما، وشرعا في الغناء بهدوء، في حين كانت إحدى الحاضرات تعزف على العود. كانت كولسن هانم أول من غنى، وكان صوتها الجهوري يرن مثل الجرس الخفيف وهي تشدو بأغنية " أبكي أنا" وتقول كلماتها: "صديقاتي، ما إن ألمس أوتار العود، حتى تبكي روحي من فرط حبي، ومن فرط شوقًي إلى المحبوب."

وعند تكرار هذا الكوبليه انضمت السيدة هانم تغني معها. وبدا كأن صوتيهما قد انصهرا معًا، ما جعل غنائهما يخترق القلوب ويسري مثل الدم في العروق، حتى كوموش التي كانت تجلس غارقة في أفكارها بدت وكأنها قد أفاقت من غفوتها، وأخذت تستمتع إلى الغناء. كانت كلمات الكوبليه الثاني تتردد على أسماع الحاضرين:

على الرغم من أنني لم ألمحه إلا للحظة، فقد أسر روحي.

ولا أخفى أنني لم أرَ رجلًا أبدًا أكثر وسامة منه.

وعند سماعها لهذه الكلمات ذرفت عيناها عدة دمعات، فيما انتقلت الفتيات إلى الكوبليه الثالث:

لو تمكنت فقط من رؤية حبيبي مرة أخرى،

فسأمنحه كل ما هو مقدس داخلي.

أما الكوبليه الرابع فتقول كلماته:

هل يعلم حبيبي كم أعاني دونه من عذاب

هل يعلم أن دموعي لا تتوقف حزنًا عليه وشوقًا إليه ليل نهار؟

أخذ القلق يتملك من كوموش أكثر فأكثر، حتى وصلت الفتيات إلى الكوبليه الخامس:

أخبروني يا صديقاتي العزيزات

إلى متى بمقدوري البقاء بعيدة عن حبيبي؟

وأخيرًا صدحت الفتيات بالكوبليه الأخير:

لا قوة لدي على الصبر والاحتمال يا من اخترته حبيبًا لي

سأقذف بعودي على الأرض وأحطمه بكل قوتي.

لم يستمع أحد للكلمات الأخيرة فقد كن جميعًا يركزن أنظارهن على كوموش التي كانت تبكي محتضنة الفتاة التي تجلس بجوارها، وهو ما جعل الفتيات ينظرن إليها بدهشة كبيرة.

"ماذا حدث يا كوموش؟" "لماذا تبكين يا كوموش؟"

"هل هناك ما يؤلمك؟ هل تشعرين بوجع في مكان ما؟"

فتحت كوموش عينيها، ورفعت رأسها عن كتف صديقتها، ونظرت حولها، وعيناها مبللتان بالدموع. استعادت رباطة جأشها ووعيها مرة أخرى، وسرعان ما أخذت محرمة من جيبها وجففت دموعها.

سألتها كولسن: "لماذا كنت تبكين؟".

أجبرت كوموش نفسها على الابتسام في وجه كولسن هانم. وقالت "هكذا – أبكي ببساطة".

"يا مسكينة، مسكينة، سينتقم الله منك يا كوموش. إذا قدر لي وتزوجت رجلًا مثل زوجك كنت سأطير إلى السماء فرحًا." قالت كولسن هانم متظاهرة بالضيق.

ضحكت الفتيات بحرارة من كلمات كولسن. لكن بقيت كوموش حزينة. ومن أجل إسعادها وإرغامها على الابتسام اقترحن لعب لعبه شائقة مثيرة للاهتمام؛ وهي لعب أدوار العروسين. لعبت كولسن دور الزوج في حين أخذت السيدة هانم دور كوموش، وأفاضت الاثنتان عبارات الإغراء المتبادل حتى انفجرت الفتيات في الغرفة ضحكًا. وبغض النظر عن الطريقة التي حاولن بها تسلية كوموش، فإن ذلك لم يكن كافيًا؛ فلم تبتسم أو تكشف كالعادة عن أسنانها اللؤلؤية. جلست وحدها، دفينة حزنها العميق.

كانت الوليمة قد بدأت في الفناء، وقُدم الطعام والحلوى للفتيات. وبعد تقديم وليمة الأرز البخاري التقليدية والانتهاء من الطعام، حضرت سيدتان من أقارب كوموش تطلبانها للانصراف معهما لتسليمها لعروسها. وكما جرى العرف أجابت الفتيات: لا. لن نعطيكما كوموش.

وبدا لكوموش للحظات أن ما يحدث حقيقي، وأن الفتيات بالفعل لن يسلمنها إلى الخطاب. وفي أثناء خروجها برفقة السيدتين من المنزل كانت تنظر إلى صديقاتها نظرة رجاء في مساعدتها، وعدم تسليمها، وكأنها تطلب منهن إنقاذها. لكنهن كن يتفرقن واحدة تلو الأخرى بعد أن رافقن صديقتهن إلى حياتها وعالمها الجديد؛ عالم النساء.


11. سعادة لم تكن على البال


كم كان صعبًا للغاية الحصول على موافقة العروس على الزواج. فقد تطلب الأمر من المأذون تكرار طلبه ست أو سبع مرات: "هل أنت يا كوموش، يا ابنة ميرزا كريم، وكلت عمك محمد رحيم بن يولداش، في زواجك من المسلم الطشقندي أتابك بن يوسف بك حاجي؟"

فقط بعد تكرار السؤال للمرة السادسة أو السابعة، بل وبعد ضغط من الأقارب تمكنوا أخيرًا وبصعوبة من الحصول على موافقة كوموش.

عند الساعة الخامسة مساءً كانوا ينتظرون بفارغ الصبر قدوم العريس في منزل قوتيدار، وقد أعدوا له الأرز البخاري والعديد من الأطباق الأخرى، وكذلك أنواع مختلفة من الحلويات.

وأخيرًا عند الساعة الخامسة والنصف تقريبًا ظهر العريس أتابك برفقة أصدقاء رحمت، الذين بلغ عددهم عشرين أو ثلاثين شابًا. كان أتابك في أبهى حلة؛ يلبس فوق رأسه عمامة من الحرير الفضي، وعلى كتفيه معطف من فراء السمور مبطن بقطعة قماش مغزول، تحته قميص أزرق من القماش، خُيط حسب طلبه في سيماي، وبنطال من القماش ذاته، ويلبس في قدميه حذاء حضري من الجلد، ويلف خصره النحيف بوشاح من الحرير من صنع يدي كوموش البارعتين.. بوجنة ين حمراوين، وشفتين تعتليهما ابتسامة خفيفة، وعينين لامعتين تنظران بتوتر في كل الاتجاهات، كما لو كانتا تبحثان عن شخص ما. كان هناك الكثير من الضيوف من سكان الحي، وعلى الرغم من أنهم قد انتهوا منذ فترة من تناول الطعام، فقد ظلوا جالسين في أماكنهم يتأملون العريس، ويتهامسون فيما بينهم: "جيد، جيد، إنه عريس جدير بعروسه. إنها جميلة وهو وسيم أيضًا".

من بين السيدات اللاتي كن يجلسن على السطح في انتظار العريس، أخت أفتاب آيم الكبرى، التي نزلت على عجل، وهمست: أفتاب، بسرعة احرقي بعض البخور، حفظ الله صهركم من شر العين.

وقف قوتيدار يستقبل الضيوف عند البوابة قابضًا ذراعيه إلى صدره، ويختلس النظر إلى صهره بطرف عينيه، ويبتسم دون أن يلاحظ أحد ابتسامته. وفي الشرفة التي تطل من المضيفة جلس ضياء شاهيجي، والإمام بلحيته البيضاء ووجهه الوسيم الصارم، وكذلك حسن علي، وضيوف من جانب العروس وبعض الأشخاص الآخرين. اقترب أتابك برفقة الشباب الآخرين من الإمام وبدأ الحديث حول مسألة الصداق بين ضياء شاهيجي، الذي يمثل أتابك ومحمد رحيم، ولي العروس. دار الحديث حول الأشياء التي يتعين على العريس منحها إلى زوجته المستقبلية بملكية كاملة. وبعد نقاش طويل اتفقا على ما يلي: تحصل العروس على مبلغ ثلاثمئة قطعة ذهبية، ووعد ملزم من العريس بشراء منزل كبير لها بعد الزفاف في مرغلان، وبقرة حلوب، وأدوات المنزل من أواني ومفروشات وغيرها.

بعد أن وافق أتابك على ذلك أمام الجميع، شرع الإمام في إتمام عقد "النكاح". بدأ الإمام بحمد الله، والثناء عليه، والصلاة على رسوله الكريم، ثم حانت لحظة السؤال الأكثر حساسية في الأمر كله: "يا أتابك، يا ابن يوسف بك حاجي، هل تقبل الزواج من كوموش، ابنة ميرزا كريم، بحسب أحكام الشرع؟ – سأله الإمام بالفارسية. فكر أتابك في نفسه: أي سؤال هذا؟ هل أقبل؟ بالطبع؛ لقد كان مستعدًا منذ الوهلة الأولى أن يصرخ بكل ما أوتي من قوة: "نعم، أقبل، بكل سرور أقبل". لكنه كان يشعر بالحرج من الحاضرين الذين قد يقولون: "ياله من عجول، نافد الصبر"، ولذلك صمت ولم يرد. وهنا كرر الإمام السؤال مرة أخرى. بحسب العادات والتقاليد كان من المفترض أن يجيب العريس عن هذا السؤال بعد المرة الثالثة، لكن أتابك لم يقو على الانتظار، فقد ظن فجأة أنه بعد المرة الثالثة قد يقول الحاضرون: "لا، إنه لا يرغب في الزواج من كوموش"، وهكذا ينتهي كل شيء، وتضطرب الأمور، فصاح وقد تملك القلق منه: "أجل أقبل، أقبل"، وهنا أكمل الإمام مراسم الزواج بقوله "الحمد لله". وأخذ الحاضرون يدعون لهما بالرفاء والسعادة، ورفعوا أيديهم جميعًا وقالوا: "آمين"، كما اشتركت النسوة اللاتي كن فوق السطح يراقبن مراسم عقد الزواج في الدعاء للزوجين. وجاء الشباب وأمسكوا أتابك من ذراعيه واصطحبوه إلى المضيفة، حيث بدأ الاحتفال بالزفاف.

كان أتابك يتحرق شوقًا للقاء عروسه، لكن الحفل بدا وكأنه لن ينتهي. وأخيرًا، حان وقت صلاة العشاء. رفعت الأطباق والأكواب التي كانت قد أفرغت في البطون الخاوية بكميات كبيرة، وكذلك رفعت مفارش الموائد. استمر الحفل حوالي ساعة ونصف، لكنها بدت بالنسبة له وكأنها سنوات طوال. أخيرًا، جاء أصهاره يدعونه للذهاب إلى غرفة العروس، ومرة أخرى دعوا للزوجين الشابين بأن يعيشا سويًا في حب وسلام وانسجام، واصطحبوا أتابك إلى الداخل.

في تلك اللحظة اقترب منه حسن علي وهنأه:

– مبارك زواجك الشرعي يا بك.

– أشكرك كثيرًا.

تفحص حسن علي سيده أتابك بلطف من رأسه إلى أخمص قدميه، ثم ربت على كتفه وباركه، وقد ترقرق الدمع في عينيه. سار أتابك معهم إلى عروسه. كان يشعر بشيء غريب في داخله: هل هذا حلم، أو حقيقة؟ هل هذا يحدث حقًا؟

والآن عزيزي القارئ لنذهب سويًا مع أتابك إلى الداخل؛ على جانبي الفناء، وغرفة كوموش نفسها تقف الكثير من النسوة والأطفال ليشاهدوا العريس، بعض النسوة يحملن الشموع في أيديهن. غرفة العريس مزينة بالسجاد والمنسوجات المطرزة (السوداني)، وبها أيضًا هدايا الزفاف التي أحضرت من قوتيدار. بالإضافة إلى ذلك، على جدران الغرفة تتدلى تطريزات جميلة صنعتها النسوة بأيديهن. ومن السقف تتدلى نجفة كبيرة تتلألأ منها أضواء ثلاثين شمعة تضفي على الغرفة وهجًا مثيرًا للغموض. في الزاوية تقف كوموش وقد ارتدت فستانًا أبيض، كالذي يرتدينه في حفل توديع العزوبية. على وجهها الرقيق الجميل تتراقص الأضواء والظلال متعددة الألوان، التي تنعكس من الأشياء الكثيرة الموجودة في الغرفة. كانت الدموع تترقرق في عينيها حينما كانت إحدى قريباتها تتحدث إليها، وعندما سمعت صوتًا قادمًا من الفناء: "العريس، العريس قادم"، أصبح وجه كوموش أكثر حزنًا وزادت في البكاء.

تركتها الخاطبة على هذه الحالة وانطلقت ناحية الباب. كان العريس قد اقترب جدًا. سار أتابك محاطًا بالنساء، وخلفه أفتاب آيم تبخره وتطيبه بالبخور. رفعت النسوة الشموع إلى أعلى كي يشاهدن أتابك بشكل أفضل. وقف أتابك على عتبة الغرفة وقد احمر وجهه خجلًا، لا يدري ماذا يفعل. وهنا فتح الباب وسمع صوتًا يناديه:

– تفضل أيها السيد.

كان قلب أتابك ينبض بصوت عالٍ حتى ظن أن من حوله كانوا يسمعون صوت دقاته. دخل أتابك الغرفة، وخرجت النسوة وواربن الباب خلفهن؛ حتى يتركن فرجة يمكن من خلالها رؤية ما يجري في الداخل. في وسط الغرفة وقفت كوموش تداعب أطراف وشاحها، لكنها لم تستدر لتلقي نظرة على الوافد الجديد. في تلك اللحظة أحست بيد تضغط على يديها الرقيقتين اللتين كانت تداعب بهما الوشاح:

– حبيبتي.

انتفضت كوموش عندما لمسها أتابك، وابتعدت عنه: لا تلمسني.

– لماذا تبتعدين عني؟ لماذا لا تنظرين إليّ؟ – قال أتابك بصوت خائف مرتعش.

حتى تلك اللحظة لم توجه كوموش نظرها ناحيته، بل حتى إنها لم تكن ترغب في النظر إليه. لكنها استطاعت وبصعوبة أن تتغلب على حذرها، وألقت نظرة حذرة على زوجها، نظرت إليه وتجمدت بشكل لا إرادي لبعض الوقت، ثم خطت بضع خطوات في اتجاه أتابك، واقتربت منه، وقالت بصوت تملكته الحيرة والتوتر:

– أهذا انت؟

– نعم أنا هو.

وقف كلاهما يحدقان في بعضهما في صمت كأنهما مسحوران.

– لا أصدق عيني – قالت كوموش، وقد أطلقت تنهيدة عميقة.

– وأنا أيضًا – أجابها أتابك، وهو يحدق فيها بعينين واسعتين مفتوحتين على مصراعيهما.

في تلك اللحظة التقت شفتاهما، وتشابكت بعد أن تجاذبت بشكل لا إرادي إلى بعضها. كانت يدا العروس الصغيرتان الرقيقتان على كتفي العريس، في حين كانت ذراعاه الكبيرتان القويتان تعانقان خصرها.

حدقت كوموش في وجه أتابك.

– يا لها من سعادة لم تكن على البال! قالت بهدوء وضحكت ضحكة فضية رنانة تتناسب مع معنى اسمها. هذه الضحكة سمعها من كان في الفناء أيضًا.

وهنا أغلق الباب الذي كان مواربًا. أخذت كوموش أتابك من يده وقادته إلى الدسترخان الذي كان قد أعد مسبقًا.

– لو كنت أعرف أنه أنت، لرحبت بك بطريقة أخرى.

– وهل كنتِ تظنين أني شخص آخر؟

– أي ظن؟ أنا لم أجرؤ حتى أن أتخيل أنه يمكن أن تكون أنت– قالت كوموش وقد أطلقت ضحكة عالية أخرى.

أمسك أتابك بيدها الرقيقة ووضع على إصبعها خاتمًا ذهبيًا، في حين شعرت كوموش بالحرج وخفضت بصرها إلى الأرض، وقالت:

– لكني لم أقم بإحضار هدية لك.

– هل يزعجك ذلك؟ لا داعي للانزعاج. هل ترفضين إذا طلبت منك شيئًا؟

– لن أرفض بالطبع.

فقال وهو يشير إلى الشامة السوداء فوق شفتها العليا: إذا سمحت لي بتقبيل هذا المكان هنا، فستكون هذه أفضل هدية بالنسبة لي.

فاحمر وجه كوموش خجلًا.

* * *

دعونا الآن نعود بالزمن قليلًا إلى الوراء.

ففي اليوم التالي من وصوله إلى مرغلان ذهب أتابك إلى سوق الأحذية، وحينما قارب وقت صلاة العصر على الانتهاء، طلب الشاب من أحد المحلات ماء ليتوضأ. كان الماء في القناة العميقة التي تمتد على طول الشارع في أسفل المجرى، وكان من الصعب الحصول عليه. أشار بائع المحل إلى مكان مناسب يمكن أن يتوضأ فيه: "إذا دخلت عبر البوابة إلى الفناء، فستجد هناك في تلك الزاوية مكانًا تكون فيه ضفة القناة منخفضة، يمكنك التوضؤ هناك".

وهكذا وجد أتابك نفسه في فناء منزل قوتيدار (في الجزء المخصص للرجال)، ووقعت عيناه بالصدفة على فتاة كالملاك، تصادف أنها في تلك اللحظة كانت قد خرجت من إحدى الغرف لقضاء بعض الحاجات. كانت هذه الفتاة هي كوموش، وقد ذهبت إلى الجانب الآخر من القناة. وتصادف أن وقعت عيناها دون قصد على ذلك الشاب الوسيم على الجهة الأخرى. وقف كلاهما لبعض الوقت يحدقان في بعضهما، غير قادرين على أن يرفع أحدهما عينيه من على الآخر. فجأة وكأنما فزعت من شيء ما شعرت الفتاة بالحرج وتوارت مسرعة في ممر مظلم يؤدي إلى داخل الفناء، وكانت ضفائرها الأربعين كلها تتراقص فوق كتفيها. حينما كانت تركض ألقت نظرة على الشاب وأرسلت له ابتسامة خفيفة. توارت كوموش لكن ظل أتابك واقفًا في مكانه لبعض الوقت لا يبدي حراكًا. أفاق، أخيرًا، ومسح عينيه وفتحهما جيدًا محاولًا أن يعيد هذا الحلم الذي رآه لتوه. لكن الأحلام أحلام، والواقع شيء آخر.

جلس القرفصاء بالقرب من القناة؛ ليجمع بعض الماء، لكن بصره كان معلقًا بذلك الممر المظلم الذي اختفت فيه الفتاة. بعد أن توضأ ظل يحدق في ذلك المكان، علها تظهر ثانية، لكنها لم تظهر قط. ربما كانت تنظر إليه من مكان ما، وتضحك على الشاب الذي أسرته وقيدته من دون حبال؟

انتظر أتابك طويلًا، وفاتته ساعة صلاة العصر. وأخيرًا، استطاع بجهد جهيد أن يدفع نفسه إلى مغادرة فناء قوتيدار. وهكذا ولدت قصة الحب، الذي كان يزداد قوة كل يوم. وما حدث فيما بعد يعرفه القارئ جيدًا. هذا تفسير سؤال كوموش: "أنت إذًا ذلك الشاب؟". فما حدث هو أن تحقق حلم كوموش، وكان هذا أول حب طاهر عفيف يمس قلبي الشاب والفتاة.





12. وشاية


"اليوم هو اليوم السابع منذ أن تزوج أتابك من ابنة قوتيدار" – كان هذا أول ما سمعه حامد عندما عاد من قوقند. بينما كان يفكر في أبشع طرق الانتقام التي تشبه وجهه البشع، كانت تتردد في أذنيه عبارة "…تزوج من ابنة…"

تحولت عودته من قوقند إلى معاناة كبيرة بالنسبة لزوجتيه؛ فقد أصبح يضربهما لأتفه الأسباب. وكانتا تتجنبان رؤيته خوفًا من بطشه، أو بالأحرى كراهية له واشمئزازًا منه، فتختبئان منه في مكان ما في ركن من أركان الفناء، بل إنهما تضامنتا واتحدتا سويًا في تمني الموت له: "آه، ليته مات في قوقند، ونهشت الكلاب جثته. هل كنا سنحزن أو نشفق عليه؟"

وعندما يفكر في شيء ما، فإنه كان يستغرق فيه تمامًا، وكانت ترتسم على وجهه في مثل هذه الأوقات تعبيرات الوحشية والقسوة، ويبدو مظهره بالكامل كأنما يستعد للانقضاض على فريسته وتمزيقها إلى أشلاء. على أية حال، فقد كان يبحث عن طريقة لانتقام وحشي. وها هي أخيرًا ظهرت على شفتيه ابتسامة شريرة، تصحبها فرقعة أصابع.

من الواضح أنه توصل إلى فكرة ما؛ فانتفض واقفًا، ونزع عمامته القذرة من على الحائط، وخرج إلى الفناء. ألقى حامد نظرة على ورشة الأقمشة، وأعطى تعليماته العمال وصبيانهم، ثم خرج إلى الشارع عبر البوابة الكبيرة وهو يعدل من وضع عمامته. اجتاز الأزقة والحارات حتى وصل إلى الناحية الغربية من المدينة حيث يقع حي البكوات. عند مدخل الحي أمام البوابة الضخمة المطلة على الجهة الجنوبية، وقف حارسان مسلحان بالبنادق والسيوف يتحدثان فيما بينهما، فاقترب منهما وسألهما: – هل السيد موجود؟

ولأنه تطفل على محادثتهما بوقاحة ودون سابق إنذار، نظر إليه أحدهما نظرة عابسة في صمت، في حين أشار الآخر ببندقيته إلى باب البك وأجابه: – اذهب.

مر الزائر عبر البوابة إلى ساحة ضخمة تشبه ساحة خان القوافل، حيث جلس ما يقرب من خمسة عشر رجلًا مسلحًا في دائرة حول نار أشعلوها للتدفئة. بعد أن اجتاز هذه الدائرة اقترب من كبير الحراس الذي كان يحرس مدخل منزل البك وقال له إنه يريد مقابلة رئيس الشرطة، وطلب منه الإذن في الدخول. فأمره الحارس أن يتبعه، واصطحبه إلى غرفة كان يجلس فيها رجل يبلغ من العمر أربعين أو خمسين عامًا، يرتدي قفطانًا من أوراتيبا ويلف حول خصره حزامًا فضيًا، وعلى رأسه عمامة زرقاء. كانت بشرته الداكنة تلمع بصفرة مميزة كالتي تظهر على وجوه من يتعاطون الخشخاش أو الترياق، وعلى ركبتيه سيف في غمده الفضي. كان ذلك الرجل هو رئيس الشرطة، وكان يجلس مستغرقًا في قراءة بعض الأوراق التي تبدو كأنها أمر أو مرسوم. سأل رئيس الشرطة على مضض بعد أن رد تحية الزائر:

– ماذا تريد؟

– سيدي، لقد جئت أشكو إليك.

تركهم الحارس وغادر، وظل الزائر واقفًا لدى الباب قابضًا ذراعيه على صدره.

– ما الشكوى؟

– سيدي، هلا سمحت لي بالجلوس؟

– حسنًا، اجلس.

خطى الزائر بضع خطوات وجلة فوق البساط الباهت البالي، وجلس في تأدب واحترام في مواجهة رئيس الشرطة، الذي قام بطي الورقة التي كانت في يده، ودسها في ردائه، ونظر في عبوس إلى ذاك الوافد عليه:

– من أين أنت؟

– سيدي، أنا من هنا، من مرغلان.

– ما اسمك؟

– سيدي، اسمي حامد.

– ما صنعتك؟

– صاحب ورشة للأقمشة.

– حسنًا. قل ما شكواك؟

بدأ حامد بلاغه بشكل رسمي، مضفيًا إلى نبرة صوته بعض القلق المصطنع: "إن قاره تشوبان لا يريدون العيش بسلام حتى في ظل الحكم العادل لمسلمان قل- بهادور، والد زوجة الخان شاهنشاه. إنهم يحرضون الناس ضد إخوانهم الكبار– القبجاق، ويريدون السيطرة على مقاليد الأمور وحدهم، والزج بالبلاد في الخراب والفوضى. كنا نظن أنه لا وجود لمثيري الفتن إلا في طشقند – عزيز بك مع مستشاره حاجي يوسف بك، لكن اتضح أن بذور الفتنة قد زرعت هنا في مرغلان أيضًا.

لمعت عيون رئيس الشرطة وقال: ماذا تقول؟ من الذي يزرع بذور الفتنة في مرغلان؟

– أحدهما هو ابن يوسف بك، مثير الشغب المعروف في طشقند، وهو يدعى أتابك وموجود الآن هنا في مرغلان، والآخر شريكه ووالد زوجته ميرزا كريم قوتيدار.

– حقًا؟

– هو كذلك بالضبط، سيدي.

– وكيف عرفت ذلك؟

– كنت حاضرًا اجتماعهم منذ أيام.

– هكذا إذًا، وماذا كان هناك؟

– كانت هناك أحاديث مختلفة، سيدي– تابع حامد – وكانت الشخصية المحورية في هذا الاجتماع هو أتابك، وهو الذي بدأ الحديث عن ظلم القبجاق ووحشيتهم، وعن أعمال العنف التي يدعي أنهم يقومون بها. وذكر أنه في طشقند قرر عزيز بك ووالده إقصاء القبجاق عن حكم البلاد، واقترح أن يثور الناس عليهم في مرغلان أيضًا. لقد أيده الجميع، خاصة ميرزا كريم قوتيدار. من الضروري التحذير من هذا الأمر الفظيع في أسرع وقت ممكن، وإلا ستكون هناك عواقب وخيمة على السلطات وعلى البلاد بأسرها، يا صاحب السعادة.

– وفي منزل من جرى هذا الاجتماع؟

لم يكن حامد يتوقع مثل هذا السؤال، مما جعله يرتبك كثيرًا؛ لأنه إذا قال في منزل من كان هذا الاجتماع فسوف يُعتقل كل من صهره وابن اخته رحمت. وكان هذا بالنسبة له كمن قام بضرب قدميه بالفأس ذاتها التي ضرب بها عدوه، ولا سبيل إلى عدم الرد. فجاء رده مرتبكًا:

– لا أستطيع تذكر مكان الاجتماع.

فصاح رئيس الشرطة في غضب:

– ماذا، كيف لا تذكر؟

كان حامد يائسًا ومرتبكًا تمامًا، وأخذ يغمغم في ضعف وانكسار:

– ربما أتذكر، لكني لا أستطيع البوح به، المكان له وضع حساس للغاية.

– ماذا يعني له وضع حساس؟ – صاح رئيس الشرطة بغضب وانفجر ضاحكًا. – إذا لم تخبرني بمكان الاجتماع فسوف ألقي بك في الحفرة مع الخونة الأوغاد الآخرين.

– أرجوك، الرحمة سيدي.

لكن رئيس الشرطة أخذ يزمجر بشراسة: لا رحمة.

لم يكن لدى حامد سوى فرصة أخيرة للنجاة؛ أخذ يفتش في جيبه، وبصعوبة بالغة أخرج محفظته وأخذ منها دون عَدٍّ عشر قطع تقريبًا من العملات الذهبية.

ثم قال وهو يمد يده بالنقود إلى رئيس الشرطة: – سيدي، هذه هدية صغيرة لكم، أرجو أن تقبلها.

عندما كان حامد يفتش في جيبه، تبدلت تعابير وجه رئيس الشرطة؛ فها هو الآن يتحدث بنبرة مختلفة، لطيفة مهذبة بعض الشيء وهو يدس النقود في جيبه في هدوء:

– إذًا هو مكان له وضع حساس، كما تقول، يا عزيزي حامد؟

– أجل، سيدي.

– وهؤلاء الأوغاد خططوا للقيام بالتمرد؟

– سيدي، لا بد من منع أفعالهم، وإلا ستكون العواقب وخيمة بلا شك.

– هؤلاء المتمردون سيعاقبون، بالطبع، سأبلغ الحاكم على الفور. يجب أن نقبض على الأوغاد فورًا قبل أن تطلع عليهم الشمس.

تهللت أسارير حامد، وشعر بالبهجة من فكرة الانتقام الوشيك. كيف انخدع رئيس الشرطة بهذه السهولة. في هذه الأثناء أخذ الأخير محبرة من الرف وغمس فيها قلمًا وسأل:

"هيا يا حامد بك، أخبرني أسماء هؤلاء المتآمرين.

– أحدهم يدعى أتابك بن يوسف بك حاجي من طشقند.

قال رئيس الشرطة وهو يدون الأسماء: "حسنًا، حسنًا. تقول ابن يوسف بك حاجي، يا له من وغد! إنهم يريدون إغراق مرغلان أيضًا في بحور من الدماء. ومن الثاني؟

– ميرزا كريم من مدينة مرغلان، وقد زوج ابنته منذ أيام قليلة من أتابك.

– الوغد حتى في الظلام يمكن أن يشم رائحة وغد مثله. من أيضًا؟

– حسن علي – عبد أتابك.

– هل هناك شخص آخر؟

تردد حامد للحظات، ثم أجاب:

– كان هناك أيضًا أكرم حاجي من أنديجان. لا أعرف هل هو في مرغلان الآن أو لا.

سجل رئيس الشرطة هذا أيضًا قائلًا:

– إنها قضية ليست سهلة على ما يبدو. من أيضًا؟

– هذا كل شيء سيدي. أهم ما في الأمر هو القبض على أتابك وميرزا كريم؛ لقطع رأس الأفعى. حينها لن يكون الآخرون قادرين على فعل أي شيء.

ترك رئيس الشرطة القلم ووضع الورقة في جيبه وقال:

– حسنًا، المسألة واضحة. صباح الغد ستعرف ماذا تم في هذا الأمر.

فقام حامد من مكانه، وانحنى باحترام أمام رئيس الشرطة، ثم غادر المكان.


13. اعتقال


كانت قلعة القصر قد بنيت في منطقة يارمزار بالقرب من أسوار المدينة. أمام البوابة على مساحة عدة أفدنة يمتد بستان كبير من أشجار التفاح والمشمش والكمثرى والتوت. على جانبي البوابة كانت هناك أسوار من الطوب اللبن بارتفاع ثماني أذرع مزينة بزخارف ملونة.

عند البوابة نرى اثنين من الحراس يرتديان قبعتين من الفرو (أوشانكا)، وأردية طويلة مصنوعة من الكتان الخشن، مسلحين بسيفين معلقين بأحزمة تلتف حول الخصر، وقد وقفا متكئين على بندقيتيهما. كانت ساعة الغروب تقترب، فقام الحارس النوبتجي بإغلاق البوابة الثقيلة، التي كانت قد تركت مواربة قبل قليل، وأحكم غلقها بصعوبة بسلسلة كبيرة.

الآن، عزيزي القارئ، ليس لدينا فرصة لدخول القلعة؛ لذا دعنا نتجول حولها قليلًا: بعد مائتي خطوة تقريبًا إلى اليسار من البوابة نصل إلى إحدى زواياها، حيث يرتفع في السماء برج حراسة خاص، لكنه خال الآن من نوبات الحراسة. بعد ذلك إلى الجنوب تمتد أرض فضاء، بعد أربعمئة خطوة أخرى في هذا الطريق نجد أنفسنا قد وصلنا إلى الزاوية الثانية – الجنوبية الشرقية – التي تخلو أيضًا من جنود الحراسة؛ من هنا يمكنك رؤية الزاوية الجنوبية الغربية. بعد أن قطعنا ما مجموعه ألف وستمئة خطوة نكون قد درنا حول الحصن بأكمله ومن ثم نعود مجددًا إلى البوابة عند الجهة الغربية.

أصبح الظلام شديدًا، حتى إنه لم يعد من الممكن تمييز وجه الشخص الذي يقف بجانبنا. كان الحراس عند البوابة يقفون منتبهين مشدودين بلا حراك كالتماثيل. كان صوت حوافر الخيول قادمًا من ناحية المدينة، وكان يقترب أكثر فأكثر. فقال أحد الحراس مخاطبًا زميله: كأنه صوت حوافر الخيل، فأخذ الحارس الآخر يحدق في ظلمة الطريق، ثم قال: كأني أرى فرسان ثلاثة قادمين."

– من عساه يأتي إلينا في مثل هذا الوقت الغريب؟

– لا أحد غير رئيس الشرطة قد يأتي في مثل هذه الساعة، ربما يكون هو.

وبالفعل كان هو؛ رئيس الشرطة برفقة اثنين من الفرسان. بعد أن سلم لجام حصانه إلى أحد الحارسين، أمر الحراس قائلًا:

– افتحوا البوابة.

ردد الحراس الأمر وفتحت البوابة من الداخل، فاجتاز رئيس الشرطة البوابة.

كنا قد قدرنا بالفعل طول أسوار القلعة، ولك أن تتخيل مدى اتساع مساحتها من الداخل، لكن كان هناك جدار يمتد في داخل القلعة من الشمال إلى الجنوب، قاسمًا إياها قسمين؛ في القسم الأكبر منهما كانت تعيش أسرة حاكم المدينة. كان الفناء الخارجي من الجوانب الثلاثة (الجنوبي والشرقي والغربي) خاليًا من أية مبانٍ، ولم يكن هناك سوى سلالم تؤدي إلى أسوار القلعة. لكن بجوار السور الشمالي الذي توجد به البوابة كان يوجد منزل يقع في جانبه الأيسر مكتب الحاكم، بعده يظهر مبنى يحتوي على خمس عشرة نافذة، وطوله أربعون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، وقد تجمع فيه قرابة خمسين جنديًا مسلحين حول نار أشعلوها للتدفئة، بعده على طول الجانب ذاته يوجد المطبخ، وإسطبلات الخيول وغيرها من المباني الأخرى.

توقف رئيس الشرطة قرب البوابة وسأل:

– هل البك موجود؟

– لا أعلم، سيدي – أجاب الحارس وهو يغلق البوابة بصعوبة.

في تلك اللحظة أشعل الجندي المسئول عن الإنارة في القلعة النار في شعلة كبيرة بالقرب من البوابة؛ فأضاء الفناء بأكمله. اتجه رئيس الشرطة مباشرة إلى يمين البوابة. على هذا الجانب ارتفعت المباني الجميلة المزينة ببراعة، التي جسدت مهارة أفضل الحرفيين في المدينة وحرفيتهم. ثم اجتاز الباب الأول الذي وقف عنده حارس مسلح، ودخل إلى غرفة صغيرة مزينة بالنقوش ومغطاة بالجص، ثم مر عبر الباب الثاني فوجد نفسه في قاعة فخمة كبيرة؛ جدرانها مضاءة بالشموع المتراصة في شمعدان ذهبي. كانت الأضواء، كأنها انعكاسات النجوم، تغمر الجدران المطلية بألوان الذهب، والفضة، والأزرق، والأحمر، والأبيض، والوردي، والأصفر، والأسود، وقد أعطى تألق الألوان وتنوعها القاعة مظهرًا رائعًا. بدت زهور الزنبق المنسوجة على السجادة الحمراء كأن الحياة والانتعاش يفوحان منها، كما لو كنا نقف في وسط مرج مزهر.

На страницу:
5 из 7