bannerbanner
الأيام الخوالي: قصة حب مريرة وقعت أحداثها في تركستان
الأيام الخوالي: قصة حب مريرة وقعت أحداثها في تركستان

Полная версия

الأيام الخوالي: قصة حب مريرة وقعت أحداثها في تركستان

Настройки чтения
Размер шрифта
Высота строк
Поля
На страницу:
6 из 7

في مكان بارز في القاعة في مواجهة المدخل الرئيس، عند باب مذهب صغير، جلس شاب لطيف يبلغ من العمر حوالي خمسة عشر عامًا، يرتدي رداءً مخمليًا قرمزيًا، يأكل الأرز البخاري.

– آه، أحمد خان، هل أنت هنا؟" – قال رئيس الشرطة مبتسمًا.

فأجاب الشاب دون أن يتحرك من مكانه:

– أنا دائمًا هنا. اجلس وتناول معي الطعام.

– شكرًا لك. هل الوالي موجود؟

– نعم. – قال أحمد خان – لا تخجل، هيا تناول الأرز. لقد أكلت حتى شبعت.

– يشرفني أن آكل من يدك المباركة.

تناول أحمد خان حفنة كبيرة من الأرز البخاري بيده، ومدها إلى فم رئيس الشرطة، الذي بدا وجهه مشرقًا سعيدًا بهذا الشرف، وبدا أنه على استعداد لابتلاع ليس فقط حفنة الأرز، بل يد أحمد خان أيضًا.

لم يمض وقت طويل، حتى فُتح باب صغير في الجزء الخلفي من الغرفة، ودخل القاعة رجل ممتلئ الوجه، بحاجبين كثيفين، ولحية متناثرة، ونظرة قاسية، متوسط القامة، يبلغ من العمر حوالي خمسة وأربعين عامًا. يرتدي رداءً مزركشًا من الديباج، ويتدلى سيف من الحزام الملفوف حول خصره. من الطريقة التي هب بها كل من رئيس الشرطة وأحمد خان واقفين، وبمقدار الاحترام الذي انحنوا له به، يمكننا أن نخمن من يكون هذا الرجل؛ جلس الرجل على وسادة من قماش الساتان وتحدث بنبرة مؤثرة:

– كيف الأحوال، خالق بك، هل كل شيء على ما يرام في منطقتك؟ تفضل اجلس.

– الحمد لله، كلنا تحت ظل نعمتك. – قال رئيس الشرطة، وهو ينحني بشدة، ثم جلس على ركبتيه قابضًا يديه.

أخذ أحمد خان الطبق الفارغ، ومفرش المائدة، وخرج من الباب الصغير نفسه الذي ظهر منه الوالي.

– ماذا حدث مع لصوص الأمس، هل قبضت عليهم؟

– تحت ظل نعمتك، قبضنا على أحد اللصوص، وآمل أن نقبض على الآخرين قريبًا بمساعدتك، سيدي.

– هل هناك شيء آخر؟

أصبحت تعابير وجه رئيس الشرطة أكثر جدية، وقال:

– تحت ظل نعمتك، يبدو أنني اكتشفت وكرًا للمتآمرين الذين يشكلون خطرًا على نظام الحكم.

أخذ الوالي سيفه الذي كان لا يزال معلقًا في خصره، ووضعه على ركبتيه، وسأله ببروده السابق:

– أي متآمرين؟

– ومن يكون أشد خطرًا على حكمنا من القاره تشوبان، سيدي؟

هنا سقط قناع اللامبالاة من على وجه الوالي، فانتبه وفتح عينيه على اتساعهما:

– أكمل؟

– أنت تعلم أن عزيز بك مع مستشاره يوسف بك حاجي قاما بتمرد في طشقند، لكنهما لم يكتفيا بذلك وقررا نشر الفوضى والاضطرابات في مرغلان أيضًا، وأرسلا رجلهما المخلص إلى هنا من أجل هذه المهمة.

– هل عرفت من هو؟

– عرفت، سيدي. – قال رئيس الشرطة بنبرة فخر – إنه ابن يوسف بك حاجي، ومعه عدد من المتمردين من مرغلان.

– ابن يوسف بك حاجي؟ – سأله الوالي.

– نعم، سيدي، واسمه أتابك.

لمعت عينا الوالي، وأخذ يفكر وهو يفرك جبينه، ويشد لحيته بيده اليسرى. ترك هذا الخبر انطباعًا قويًا عليه: فمن المحتمل جدًا أنه في الوقت الذي انتفضت فيه طشقند ضد قوقند، أرسل أحد المحرضين على الاضطرابات في طشقند – وهو يوسف بك حاجي – ابنه إلى مرغلان بهدف القيام بتمرد هنا أيضًا.

– أين يقيم الآن؟

– في منزل رجل اسمه ميرزا كريم قوتيدار.

– وما علاقته بميرزا كريم؟

– هذا هو بيت القصيد، سيدي؛ فقوتيدار هو أقرب شخص لأتابك في مرغلان. قبل أيام قليلة زوج قوتيدار ابنته من أتابك؛ ليصير صهرًا له. يقال إن أتابك يتشاور مع حميه في كل شيء.

– ومن ينضم إليهما أيضًا؟

أخرج رئيس الشرطة قطعة من الورق من جيبه، وقال وهو يمد يده بها إلى الوالي:

– حتى الآن لا أعرف سوى هذه الأسماء.

بمجرد أن انتهى من قراءة البلاغ، أمر الوالي بالقبض على كل من ورد اسمه فيها على الفور. فانحنى له رئيس الشرطة ثم غادر الغرفة، في حين استغرق الأول في التفكير بعد أن قرأ قائمة الأسماء مرة أخرى بعناية.

***

كان الوالي أوتاباي قوشبكي(21) قد خرج لتوه من خلوته في اللحظة نفسها التي دخل فيها رئيس الشرطة، فانحنى الأخير له، ثم قال:

– لقد أُحضِر الأشخاص المطلوبون سيدي. لكن هناك اثنين لم نجدهما.

– وأتابك؟ – سأله الوالي بفارغ الصبر.

هتف رئيس الشرطة بنبرة المنتصر: قبضنا عليه، سيدي، وقوتيدار أيضًا.

– أحضرهم إليّ.

تنفس الوالي الصعداء وهدأت نفسه. فخرج رئيس الشرطة وأعطى إشارة من الردهة لمن في الفناء، ثم عاد إلى الوالي وطلب الإذن بالجلوس. برفقة اثنين من الحراس دخل أتابك وقوتيدار، وانحنوا جميعًا أمام الوالي، الذي أشار للحراس بالانصراف، ثم دعا أتابك وقوتيدار إليه بلطف. كان وجه أتابك يعكس حيرته، في حين بدا قوتيدار خائفًا وبدا وجهه شاحبًا للغاية. عندما اقتربا من الوالي جثوا على ركبتيهما. نظر الأخير إلى أتابك نظرة فاحصة، وسأله:

– هل أنت أتابك؟

– نعم، سيدي، أنا.

– هل أنت ابن يوسف بك حاجي من طشقند؟

– نعم سيدي.

– أنت تقيم الآن في مرغلان؟

– نعم، سيدي.

– منذ متى وأنت هنا؟

– منذ حوالي أربعين يومًا.

– ما الغرض من زيارتك إلى مرغلان؟

– جئت في تجارة، سيدي.

– هل جئت تتاجر وحدك؟

– معي شخص آخر.

ألقى الوالي نظرة على القائمة التي كان يحملها أمامه، وواصل التحقيق:

– من حسن علي؟

هنا ارتبك أتابك قليلًا، لكنه أجاب بهدوئه السابق:

– هو خادمنا، الشخص الذي أتيت معه من طشقند هو حسن علي.

– وأين حسن علي الآن؟

– في مرغلان.

– هل يعيش معك؟

– كلا، إنه يقيم في خان للمسافرين. لدينا هناك بعض البضائع، وهو يعتني بها.

– من يكون هذا الشخص بالنسبة لك؟ – أشار الوالي إلى قوتيدار.

– هو والد زوجتي.

– منذ متى وهذه الصلة قائمة بينكما؟

– اليوم هو اليوم الثامن من زواجي بابنته.

– هل سبق لك الزواج؟

– لا.

– لماذا إذًا تزوجت من فتاة من مرغلان وأنت من طشقند؟

كان أتابك مرتبكًا، فظن الوالي أن ارتباكه هذا دليل على صحة شكوكه:

– أجب.

– إنه النصيب، سيدي.

صمت الوالي هنيهة، ثم فكر وواصل الاستجواب:

– من تعرف أيضًا في مرغلان؟

– لا أعرف سوى ثلاثة أو أربعة أشخاص، لا أكثر.

– هل تعرف أكرم حاجي؟

– نعم أعرفه؛ التقيت به عدة مرات.

– وأين هو الآن صديقك أكرم حاجي؟

– لست أدري، سيدي، – قال أتابك ونظر إلى حميه، كأنما يخاطبه لمساعدته في الرد على السؤال.

فقال قوتيدار: أكرم حاجي على الأرجح في أنديجان، سيدي".

– حسنًا، أجب يا أتابك، في منزل من دارت الأحاديث التي حضرها معك أكرم حاجي؟

بدأ أتابك يشعر أن هذا الاستجواب يجري لسبب ما، وأن شيئًا خطيرًا كان مخفيًا وراء هذه الأسئلة.

– المرة الأولى التي التقينا فيها قبل حوالي شهر كانت في منزل رجل يدعى ضياء شاهيجي، والمرة الثانية – في منزل هذا الرجل (أشار أتابك إلى قوتيدار). كان أكرم حاجي حاضرًا أيضًا في هذه اللقاءات.

– من شارك في اللقاءات التي جرت في منزل ضياء شاهيجي؟

– أنا، وضياء شاهيجي، وهذا الرجل (قوتيدار) – فكر أتابك للحظة وأضاف: – وابن ضياء شاهيجي – رحمت، وأكرم حاجي، وحسن على وشخص آخر يدعى حامد.

عند سماع اسم حامد، أومأ رئيس الشرطة برأسه مؤكدًا الكلام. تابع الوالي وهو ينظر إليه من تحت حاجبيه:

– ومن كان حاضرًا في الاجتماع الثاني؟

– الأشخاص نفسهم، ماعدا حامدًا.

– متى أتيت إلى مرغلان؟

– قبل أربعين يومًا.

– حسنًا، والآن أخبرني، ما السبب الذي جعلك تقيم في مرغلان لفترة طويلة؟

– بالطبع أنت تعلم أن طشقند محاصرة. والعودة إلى هناك الآن ستكون ضربًا من الجنون.

– ماذا تقول، هل خفت من القبجاق وأنت من القاره تشابان ؟ – سأله الوالي باستهزاء.

– أنا لا أفهمك. – قال أتابك مبتسمًا، لقد كان يتحدث مع الوالي كأنه يتحدث مع شخص عادي. وما كان يقلق قوتيدار ويزيده توترًا وخوفًا ليس كلام أتابك بل ابتسامته. فالتعامل مع الحاكم بمثل هذه الطريقة، حتى لو كان على حق كمن يلقي بنفسه إلى التهلكة. صحيح أن أوتاباي كان أكثر الحكام حكمة وعدالة في ذلك الوقت، لكنه لم يستطع إلا الخضوع لتأثير العادة والجو العام في ذلك الوقت؛ ولهذا فإن أتابك بطريقته الهادئة أخرجه عن صبره:

– هل نسيت أن أباك يوسف بك حاجي هو عدو القبجاق؟ وماذا عن التعليمات التي أعطاك إياها والدك بصفتك ممثلًا له، وأعطاك بها صلاحياته؟

– من عدو القبجاق وما الصلاحيات التي تتحدث عنها؟ سألتك بالله أن تتكلم بشكل أوضح، فأنا لا أستطيع أن أفهم أي شيء، أو لتقتلوني.

– لا تتظاهر أيها البك، نحن نعلم جيدًا من هو والدك، ولماذا أرسلك إلى مرغلان، وماذا تفعل هنا مع قوتيدار. كل شيء معلوم بالوثائق؛ تريدون تحريض الناس في مرغلان ضد القبجاق، ونحن نعلم ذلك.

– يا إلهي! – صاح أتابك وقوتيدار معًا.

كان وقع الصدمة عليهما قويًا. احتبست أنفاس أتابك، واصفر لونه، في حين كان قوتيدار يرتجف كمن أصابته الحمى. بجهد جهيد حاول أتابك أن يتماسك، وقال:

– إن هذا محض افتراء يا سيدي، هل تعتقد حقًا أن والدي عدو للقبجاق، وأني قد أتيت إلى مرغلان للتحضير للانقلاب مع رفاقي؟

– لا أعتقد، بل أعلم أن الأمر كذلك، ونحن ندرك جيدًا الغرض الذي من أجله قام قوتيدار بتزوجيك ابنته، وجعلك صهرًا له.

أصاب قوتيدار ذهول تام، وبقى أتابك صامتًا أيضًا من هول الصدمة. ففسر الوالي ورئيس الشرطة اللذان كان يراقبان المتهمين بعناية، حالتهما تلك على أنها دليل ضدهما.

أخيرًا، بعد مرور ثلاث أو أربع دقائق نطق أتابك:

– إذًا أنت تعتقد أننا لسنا سوى متآمرين ومتمردين؟ حسنًا، سواء كنت تعتقد ذلك أم لا، آمل أن يكشف تحقيقك المحايد الحقيقة. أنا لا أخاف من الإعدام ولا أنوي تملقك على الإطلاق، لكن يجب أن أقول إنني أُعدُّك الأكثر عقلانية وعدلًا بين غيرك من الحكام؛ لذا أريد أن أوضح معتقداتنا وآراءنا أنا ووالدي.

نحن لا نقف في صف طرف ضد الآخر، لا القبجاق ولا أهلنا من القاره تشوبان، ونرى أنه لا ينبغي تغليب طرف على الآخر؛ فكلاهما في شئون الحكم ليسا الأفضل ولا الأسوأ. وأن ربط مستقبل تُرْكِستان بواحد فقط من هذه الأطراف تمامًا كأن نجعل الذئاب تحرس الغنم. ستسألني لماذا؟ أجل هكذا بالضبط؛ لأن الطامحين إلى السلطة من كلا الجانبين تحكمهم فقط مصالحهم الشخصية وأطماعهم. بعضهم يسعى إلى مضاعفة ثروته على حساب قمع الناس، وآخرون يحلمون برغد العيش وحياة الرفاهية، وامتلاك النساء الجميلات. ولن تجد بينهم واحدًا لديه هدف أسمى، وهو توفير الأمان والرفاهية للشعب.

لذلك أنا وأبي من أنصار هذا الهدف النبيل، يا سيدي، ولسنا ندافع عن القاره تشوبان. وحتى الآن وللأسف الشديد يبقى هذا الهدف النبيل لدينا حلمًا فحسب. لقد أصبح أبي مستشارًا لعزيز بك ليس لأنه عدو للقبجاق ونصير للقاره تشوبان، لكن لأنه يأمل في أن يحقق اقتناعاته على أرض الواقع. وللأسف، لم تتحقق آمال أبي في عزيز بك؛ فقد أدار ظهره للخان من أجل تحقيق مخططاته السوداء، وهو ما يتسبب في سفك دماء الكثير من الأبرياء. يمكنك أن تصدق أو لا تصدق، أنت حر بلا شك في ذلك، لكني، يا سيدي، مستاء من هذا الافتراء الواضح ضدي، وأتألم كثيرًا لسماع ذلك.

بعد أن استمع إلى أتابك، استغرق الوالي في التفكير جديًا، لكن الشكوك ظلت تساوره تجاهه: ففي النهاية يظل أتابك ابن يوسف بك حاجي أقرب المستشارين إلى عزيز بك، ثم إنه ربما يكون قد أعد هذا الكلام مسبقًا في حال ألقي القبض عليه؟

الشيء الوحيد الذي قرره هو إجراء تحقيق شامل في القضية، وعدم التسرع في النتائج:

– على أية حال، تبدو أفعالك مثيرة للشك بالنسبة لنا وحتى نعرف الحقيقة، ستوضعان في السجن.

لم يرد أتابك بشيء، في حين نظر قوتيدار إلى صهره نظرة حائرة كأنما يسأله: "ألا يوجد مخرج؟" وبإشارة من الوالي جاء الحراس وقادوا المتهمين إلى الزنزانة. وعندما أذن الوالي لرئيس الشرطة بالانصراف، أصدر أمره له قائلًا: غدًا، اعتقلوا المشاركين في تلك الاجتماعات، واحضروهم جميعًا إلى هنا.


14. إلى طشقند طلبًا للنجاة


فجأة تحول اليوم الثامن في شهر العسل بالنسبة إلى كوموش– التي امتلكت "السعادة غير المتوقعة"– إلى كارثة نزلت على رأسها المسكين، ولم تكن تتوقعها على الإطلاق. وكذلك بالنسبة إلى حسن علي الذي كان في نشوة سعادته: "ها أنا أخيرًا قد زوجت البك، وأسعدت قلبه بأن جمعته بمحبوبته"، ولم يكد يستوعب تفاصيل هذه الزيجة كافة، بل ولم يكد يفرح بما صنعته يداه من أجل إسعاد سيده؛ فلم تكن هذه المصيبة حدثًا بسيطًا ولا أمرًا هينًا.

أما أفتاب آيم التي كانت في قمة سعادتها وهي ترى الزوجين الشابين مثل زوجين من الحمام لا يطيقان الافتراق ولو لدقيقة، أن تزوجت ابنتها الوحيدة الحبيبة شابًا مثاليًا ورائعًا، فقد كان أمر اعتقال زوج ابنتها وزوجها غير المبرر صدمة عنيفة بالنسبة إليها. كانوا جميعًا غارقين في الهموم من هول الصدمة، لا يستطيعون تصديق ما حدث.

يئست كوموش، على ما يبدو، من أن الحياة ستمنحها السعادة، وبدت فاقدة لكل أمل في انتهاء هذا الكابوس. أما حسن علي الذي لم يكد يتنفس الصعداء بعد زواج سيده، فقد وجد نفسه أمام مشكلة عويصة لا حل لها. واستسلمت أفتاب آيم للكآبة والهموم.

الشيء الوحيد الذي كان في استطاعة كوموش وأفتاب-آيم أن تبذلاه في مواجهة مصيبتيهما هو البكاء والنحيب لأيام متتالية. حطت هذه المأساة بثقلها كالجبل على صدر حسن علي. وكانت كوموش في حيرة تامة من أمرها؛ لا تدري ماذا تفعل وممن تطلب المساعدة لإنقاذ زوجها وأبيها، فنظرت إلى حسن علي بعيون تملؤها الدموع، وكأنها تسأله: "ماذا نفعل؟". لم يكن هناك رجال آخرون في عائلة قوتيدار يمكن الاستعانة بهم. الرجل الوحيد الذي يمكن أن يكون عونًا لهم كان أحمد بك، خال كوموش، لكنه في الأغلب كان في قوقند، وبالتالي كان الاعتماد عليه دون جدوى. وهكذا، لم يبق إلا حسن علي الشخص المخلص الوحيد الذي تثق فيه كوموش وأمها.

باتت هموم المنزل وأعباؤه الثقيلة كلها تقع على كاهل حسن علي. لو أنه كان في مدينته حيث يعرف فيها الجميع ويعرفونه، لهبوا جميعًا إلى المساعدة في مثل هذه اللحظات القاسية، سواء بالقول أو بالفعل، ولما أصبح الأمر بهذه الصعوبة، لكن طشقند بعيدة، وهنا في مرغلان هو وحده تمامًا لا يعرف فيها أحدًا سوى ضياء شاهيجي وابنه رحمت. "على أية حال، ليس لدي أشخاص آخرين هنا لأعتمد عليهم" – كان حسن علي يضع عليهما آمالًا كبيرة، لكن سرعان ما تبددت آماله؛ فقد احتجز ضياء شاهيجي وولده. وسرعان ما اتضح له أن السلطات تلاحقه هو نفسه.

تملك الرعب من حسن علي وكوموش هانم وتضاعف يأسهما وحزنهما. كان حسن علي سيُعتقل في اليوم نفسه الذي اعتقل فيه أتابك وقوتيدار، لكنهم لم يجدوه؛ لأنه كان في خان المسافرين وقتها وليس في المنزل. قبل أن يبدأ جنود رئيس الشرطة بحثهم عن حسن علي كان لايزال لدى كوموش وأفتاب-آيم أمل في أن يطلق سراح أحبائهما أتابك وقوتيدار في غضون يوم أو يومين، أما الآن فقد تلاشت كل هذه الآمال.

في البداية فكر حسن علي أن يسلم نفسه طواعية للسلطات وأن يشارك أتابك مصيره، فإذا كان عليه أن يموت، فليمت معه، وإذا مرت الأمور بسلام فليطلق سراحهم جميعًا معًا. لكن كوموش وأمها عارضتا هذه الفكرة، وكانتا تقولان: "قد تكون وأنت حر أكثر فائدة للسجناء". وجد حسن علي أنهما على حق، لكن حياته صارت أصعب؛ ففي كل دقيقة كان يتوقع مجيء الشرطة للقبض عليه. ولكي يضلل الجنود كان مضطرًا إلى تغيير مكان اختبائه عدة مرات في اليوم.

فقد حسن علي شهيته، ولم يعد قادرًا على النوم ليلًا، وبات يفكر ويسأل نفسه باستمرار: "لماذا اعتقل أتابك وقوتيدار؟ وما الجرم الذي ارتكباه؟" كان حسن علي على علم بشئون سيده كلها. راودته فكرة أنه "ربما يكون قوتيدار متورطًا في بعض الأعمال الشائنة؟" لكن خوفه كان يزداد أكثر فأكثر، وقد ذكرته هذه المصيبة بالقول المأثور: "قد يهلك المرء لا لذنب اقترفه، ولكن لأن الحاكم تعطش لسفك الدماء"، وخرجت من صدره تنهيدة ملؤها الألم.

مرت خمسة أيام صعبة، ولم يتضح الأمر، لم يعرف أحد الأسباب التي جعلتهم يعتقلون أتابك وقوتيدار. لم يستطع حسن علي فعل شيء لإطلاق سراحهما، ومن الواضح أنه لن يستطيع فعل شيء في المستقبل؛ لذا كان عليه أولًا وقبل كل شيء أن يحتاط لنفسه ويبقى مختبئًا عن عيون جنود رئيس الشرطة.

في النهاية، قرر حسن علي مغادرة مرغلان والعودة إلى طشقند. من هناك كانت تأتي طوال الوقت إشاعات مزعجة، وكان يتردد على الألسنة أن جيش قوقند لا يزال يحاصر طشقند. فكان حسن علي على دراية تامة بالأخطار التي تنتظره هناك، ومع ذلك، كان حدسه يخبره أن هذه هي الطريقة الوحيدة للنجاة، وأن عليه المغادرة إلى طشقند مهما كلفه الأمر. ببساطة لم يكن لديه خيار آخر.

أخبر كوموش وأمها بقراره، لكنهما كانتا في حزن عميق فلم تفهما جيدًا ماذا يريد أن يقول لهما فبكيتا بكاءً شديدًا. قال لها حسن علي "إنني هنا لن أستطيع فعل شيء معكما، على أية حال، يجب أن أذهب إلى طشقند لطلب المساعدة"، فسألته كوموش بصوت حزين منكسر:

– فكر في الأمر، إذا كنا لم نجد حلًا ولا أملًا هنا في مرغلان، فكيف تطلبه في طشقند؟

– علينا أن نجرب يا ابنتي، ربما سيجد والد زوجك مخرجًا، ويرشدنا إلى الصواب.

– وكيف نتصرف دونك؟ ماذا لو أن الطغاة.. – لم تستطع كوموش إنهاء كلامها وانفجرت بالبكاء، وأجهش حسن علي بالبكاء، لكنه تمالك نفسه، وقال محاولًا تهدئة كوموش:

– يجب ألا نستسلم للأفكار السيئة يا ابنتي؛ فالوالي على عكس الحكام الآخرين رجل عادل. نسأل الله تعالي أن يفرج كرب أبيك وزوجك قبل أن أعود من طشقند.

في تلك الليلة تجهز حسن علي للرحلة وأعد جوادًا كان لقوتيدار، وعند الفجر كان أول من غادر مرغلان من بوابة قوقند.


15. طشقند تحت الحصار


كان اليوم هو الحادي والخمسين لحصار طشقند، وقد انكسرت حدة البرد، وأصبح الطقس أكثر دفئًا بشكل ملحوظ، ونشرت الشمس أشعتها فأضاءت السماء. بدأ ذوبان الثلوج، وكثر الوحل في كل مكان. كان البخار يتصاعد من داخل أسوار الحصن.

وفي وقت مبكر من صباح اليوم، قامت قوات من جيش قوقند بمهاجمة طشقند من ناحية بوابة سمرقند، وانتهى هذا الهجوم نهاية مأساوية للغاية بالنسبة للقوات المهاجمة. حيث فر الجنود الناجون عشوائيًا إلى ملاجئهم المؤقتة للراحة قليلًا، ولتضميد جراحهم. كان مشهد المعركة مروعًا.

على طول سور الحصن بين بوابتي كمالان وسمرقند على مسافة خمسمئة خطوة تناثرت جثث الجنود التي نبشها اللصوص، والجثث شبه العارية، ومقطوعة الرأس، والمغطاة بالدم الأسود الكثيف. أما فوق أسوار الحصن، فقد استلقى الرجال المتطوعون للدفاع عن طشقند، المتعبون بعد المعركة والمبتهجون بانتصارهم، تحت أشعة الشمس الدافئة، بعضهم يرتدي العمامة، وبعضهم يرتدي القبعة العادية، أو الباباخا(22)، يتأملون ساحة المعركة التي تحولت إلى مقبرة مفتوحة مرعبة.

وهكذا، فيما بين البوابتين نرى مشهدين مختلفين تمامًا: أحدهما أسفل أسوار المدينة حيث تمتد مساحة هائلة من مئات الجثث مقطوعة الرأس أو الملطخة بالدماء السوداء المتخثرة، والمشهد الآخر هناك فوق أسوار المدينة حيث يقف الجنود المدافعون عنها يهللون بالنصر.

يقف أحد الجنود ويضحك في حماس شديد وهو يتفاخر بأنه قتل أحد قادة القبجاق: "عندما أصبته مباشرة، عليه اللعنة، ارتفع مسافة ثلاث أذرع فوق حصانه، ثم هوى على الأرض". رجل آخر يشير إلى جثة شخص ما في الأسفل: "انظر هناك، عندما اخترق سهمي ذلك القبجاقي، أخذ يئن ويتأوه، ففصلت رأسه عن جسده ونزعت عنه حزامه الذهبي، ومعطفه المذهب". وهكذا، ظلوا يتفاخرون ببطولاتهم ويتباهون بغنائمهم الثمينة التي غنموها: فهذا قد غنم حزامًا ذهبيًا، وذاك – خاتمًا من الياقوت، وثالث – معطف من فرو السمور، ورابع – سيف في غمد فضي، وغيرها من الغنائم.

في تلك اللحظة انطلقت من فوق أسوار الحصن أصوات تغني وتهتف باسم عزيز بك:

دام عهدك المجيد،

أيها الوالي القوي السعيد

دع نارمات(23) الشقي يموت

وليحترق القبجاق والجنود.

والآن اسمح لي، عزيزي القارئ، أن أذهب معك قليلًا، متجاوزين جثث القتلى، إلى جهة الغرب. ولنتوقف عند بوابة سمرقند التي يبلغ ارتفاعها ست أذرع وعرضها خمس أذرع، مثبتة في سور الحصن الذي يبلغ ارتفاعه ثماني أذرع. ونظرًا لأننا معرضون لهجوم مباغت من العدو فإننا سنطرق البوابة بفارغ الصبر:

– افتحوا البوابة، افتحوا بسرعة.

ومع ذلك سوف يتجاهلنا حراس البوابة تمامًا، لكن لنواصل الطرق بشدة وإصرار، وأخيرًا بعد مرور خمس عشرة دقيقة تقريبًا يسأمون من الطرق على البوابة، ويتسلق أحد الحراس على مضض وببطء شديد سور الحصن ليتفحصنا بعناية، وبعد أن يتأكد أننا منهم، أي من أهل طشقند، بصعوبة بالغة يفتح قفل البوابة الضخم الذي في حجم رأس الجمل وينزع السلسلة فتفتح البوابة. وبينما نمر عبرها إلى الداخل نسمع تمتمته المتذمرة والغاضبة منا حتى يغلق البوابة مرة أخرى.

دعونا نلقي نظرة سويًا على هذا الحارس المتجهم؛ إنه يرتدي معطفًا من جلد الغنم، يلف خصره بحزام من القماش الرخيص، يتدلى منه مفتاح بوابة الحصن، ويرتدي فوق رأسه قبعة من الفرو التركماني طولها نصف ذراع. لنذهب إلى يمين البوابة قليلًا، ثم على مسافة خمس عشرة خطوة تقريبًا في داخل الفناء في منطقة مفتوحة تشبه الشرفة نجد المزيد من حراس البوابة يجلسون حول النار يتدفأون ويدخنون الأرجيلة.

لنواصل رحلتنا على طول الجانب الداخلي لسور الحصن. الآن نرى مجموعات الرماة الذين كانوا قبل ذلك يقفون على حافة أسوار الحصن. ودعونا ننظر إليهم عن كثب؛ إنهم الآن يستريحون ويجلسون فوق أعلى درجة من درجات السلم المؤدي إلى أعلى السور، ويستمتعون بأشعة الشمس الدافئة. ملابسهم مزركشة بألوان متنوعة، وأعمارهم متفاوتة. هؤلاء جميعًا ببساطة شديدة هم من سكان طشقند الذين هبوا للدفاع عن مدينتهم؛ بعضهم يحمل السيف، وبعضهم يحمل البنادق. المنطقة المحمية بأكملها حتى بوابة كمالان تبدو كأنها لوحة فنية خلابة.

وفي مكان ما في المنتصف بين بوابتي سمرقند وكمالان كان يقف بك في رداء مزركش، يحمل سيفًا معلقًا على حزام فضي، ويرتدي فوق رأسه عمامة من الحرير فضية اللون، وكان يتحدث إلى شاب يقف بجواره، كأنما يشرح له شيئًا وهو يشير إلى مجموعة من الأشياء الموجودة أمامه. إذا اقتربنا منهما لمسافة خمسين أو ستين خطوة أخرى، نجد شيئًا مريعًا "تل الرعب"، الذي تبدو أمامه المشاهد المروعة التي رأيناها من قبل خارج أسوار الحصن لا شيء مقارنة به. هذا الشيء الذي نراه أمام أعيننا يجعلنا نفقد الوعي من هول ما نراه، واشمئزازًا مما نرى. فأمام أعيننا تل يتألف من ثلاثة إلى أربعمئة رأس بشري.

يا للهول! تلك اللحى الطويلة، والشعر المتناثر المخضب بالدماء، وتلك الوجوه الرمادية الشاحبة، والعيون المغطاة بضباب الموت، شبه المفتوحة وكأنها ترسل لعناتها إلى عالم الأحياء. كان بينها رأس واحد مخيف بشكل خاص. ربما لم يتم صاحبها العشرين من عمره، ولم يتجاوز شارباه شفتيه بعد. بدت عيناه نصف مفتوحتين تحت حاجبين كثيفين ملطخين بالدماء وكأنها تبحث عن شخص ما. يبرز لسانه من بين أسنانه البيضاء في فمه نصف المفتوح. النظرة المخيفة على وجه القتيل كأنما تأسف على أنه كتب عليه أن يولد في هذا الزمن الرهيب بين شعب طائش متهور.

من بين هذه الرؤوس المخيفة تعرَّف البك أحد القبجاق، وأشار إليه للشاب الذي يقف بجواره. في تلك اللحظة ظهر ثلاثة من الفرسان المسلحين وهم يركضون من جهة بوابة كمالان:

– سليمان كبير الياوران- صاح الرجال الجالسون فوق سور القلعة.

عندما اقترب كبير الياوران من قائد الحصن أعلن أن صاحب الجلالة عزيز بك سيصل الآن، ثم انطلق الفرسان عائدين بسرعة كما ظهروا بسرعة، ويعني ذلك أنه بعد إعلان كبير الياوران مباشرة سيأتي عزيز بك بنفسه لتكريم جنوده وتهنئتهم بهذا النصر المبين الذي حققوه اليوم.

بعد أن أدار كبير الياوران رأس جواده عائدًا إلى حيث أتى، أصبح رئيس القلعة متوترًا للغاية، وأخذ يركض ذهابًا وإيابًا كالمجنون، موجهًا أوامره إلى الجنود:

– أيها الرجال الشجعان، الواقفون هناك فوق أسوار القلعة، اصطفوا كما ينبغي لكم، واستعدوا لمقابلة البك. يا حسين بك، هيا اركض بسرعة وحذر حراس البوابة. وأنت يا غني بك، ساوِ صفوف فرقتك. وأنت يا قائد الحرس، حافظ على النظام.

دبت الحركة في الحصن، فنزل الرجال الواقفون على الدرجات العليا للسلالم إلى أسفل درجة واحدة وبدأوا في الاصطفاف. في وسط دوي الحركة المتصاعد امتطى قائد الحصن جواده، وأخذ يتنقل من جانب إلى آخر مصدرًا أوامره وتعليماته إلى رجاله:

– اجمعوا أيها الرجال. اصطفوا جميعًا. استعدوا للترحيب بالبك.

ارتفع الصخب، وبدأ المقاتلون المسلحون بالبنادق والسيوف والفؤوس والرماح في تسوية صفوفهم. في منتصف التشكيل رفعت راية خضراء، وهكذا، كان كل شيء جاهزًا للاستقبال الرسمي لحاكم المدينة عزيز بك.


16. عزيز بك


بعد ثلاث أو أربع دقائق ظهرت فرقة كبيرة من الفرسان من ناحية بوابة كمالان. كان هذا عزيز بك يقترب برفقة قادة عسكريين، محاطًا بحاشية قوامها مئة جندي. كان يجلس مزهوًا فوق ظهر مهر كستنائي اللون عليه عدة مذهبة، وكان يرتدي رداءً مزركشًا متلألئًا بألوان قوس قزح تحت أشعة الشمس، بياقة وأكمام مطرزة بشريط ذهبي مضفور، ويضع فوق رأسه عمامة من الحرير الأبيض، ويلتف حول خصره حزام ذهبي معلق فيه سيف جزائري الصنع في غمد فضي، وقد وضع قدميه في ركاب مصنوعة من الفضة.

كان وجه عزيز بك قمحي اللون، مؤطرًا بلحية مدببة، وحاجبين خفيفين متناثرين. كانت ملامحه توحي بأن عمره ما بين الخمسة والأربعين والخمسين عامًا تقريبًا. كان يتبعه على ظهر حصان أسود كالغراب رجل يرتدي رداءً أزرق مبطنًا بالفراء، ويضع فوق رأسه قبعة من صوف الخراف، ويتدلى من جانبه الأيمن سيف معلق بحزام فضي حول خصره، وفي جانبه الأيسر مسدس. كان وجهه الداكن بلا حاجبين، كأن حاجبيه قد نتفهما الجن، وعلى جانبي وجهه وذقنه نمت لحية متناثرة وشعر رقيق ناعم، كانت عيناه الغائرتان محتقنتان بالدم. كان ذلك هو القائد العام لجيش عزيز بك، وذراعه اليمنى رحيم بك دادخاه.

إلى جانبه على ظهر حصان صغير كان يسير شخص ما يرتدي ثوبًا بخاريًا مقلمًا، وليس حول خصره حزام، وفوق رأسه عمامة كبيرة. كان الرجل مستدير الوجه، حسن المظهر، بعينين بنيتين صافيتين، ولحية طويلة رمادية اللون. كان يشبه في هيئته رجال الدين، وكان بالإضافة إلى ذلك أعزلًا بلا سلاح، وكان يركب فوق ظهر حصانه متكئًا بمقبض السوط على مقدمة السرج.

خلف هؤلاء الثلاثة كان يسير صف من الجنود في مجموعات من أربعة رجال، يرتدون جميعًا سترات قصيرة بطول الركبة من القماش الأزرق، وسراويل من القماش الأحمر، وينتعلون في أقدامهم أحذية خضراء اللون مصنوعة من جلود الخيل، وعلى رؤوسهم قبعات تشبه تلك التي يرتديها رايم بك، لكنها كانت مغطاة بقماش مخملي أحمر. وكانوا جميعًا يرتدون حول الخصر أحزمة جلدية بيضاء معلق بها سيف في الجهة اليسرى، وطبنجة في الجهة اليمنى. بشكل عام كان الموكب منظمًا ومصطفًا بشكل جيد، على الرغم من أن العديد من الجنود كانوا متقدمين في العمر.

اصطف أبطال المعركة عند سور الحصن للترحيب بعزيز بك، وفي خضوع انحنوا جميعًا له حتى كادت رؤوسهم تلامس الأرض. رد عليهم عزيز بك بإيماءة من رأسه وهو يضع المقبض الذهبي لسوطه على صدره. نزل قائد الحصن، الذي كان يقف عند تلة الرؤوس المقطوعة، عن جواده، وبقى في مكانه ممسكًا بعنان الفرس بين يديه المضمومتين إلى صدره، منتظرًا باحترام وتوقير لحظة اقتراب البك من هذا المكان. بقيت أربعون أو خمسون خطوة تفصل بين البك وتلة الرؤوس المقطوعة. حدّق عزيز بك باهتمام شديد في الرؤوس المقطوعة حتى إنه نسي رد التحية. وكذلك نظر القادة والجنود الذين رافقوا عزيز بك إلى هذا التل الرهيب.

اقترب عزيز بك من التلة وأخذ يحدق لبعض الوقت في هذا المنظر الذي لاح أمام عينيه. ثم التفت إلى قائد الحصن الذي كان لا يزال واقفًا ويداه مضمومتان إلى صدره، وقال مبتسمًا:

– أحييك على شجاعتك؛ اليوم لقنت القبجاق درسًا قاسيًا، وهزيمة ساحقة مثلما فعل رستم الأسطوري، لقد سحقوا مثل الكلاب. شكرًا للرجال على شجاعتهم وبطولاتهم، بارك الله في أعمارهم.

أنهى عزيز بك كلمته، وعلى الفور صاح كبير الياوران بصوت عالٍ حتى يسمع من هم فوق:

– إن البك المبجل والمعظم لدينا يشكركم جميعًا على شجاعتكم التي أظهرتموها اليوم، ويتمنى لكم العمر المديد.

كانت صيحات الجنود-الرماة عالية جدًا لدرجة اهتزت لها أرجاء المكان:

– شكرًا سيدي، أطال الله بقاء الحاكم، ووسع له في ملكه.

ضم عزيز بك السوط إلى صدره وانحنى للجنود. ثم أعطى الأمر لكبير الياوران:

– فليمنح قائد الحصن رداءً من الديباج المذهب، وأمراء المئة – أردية من الحرير، والرجال الشجعان الآخرون – ثلاث عملات فضية لكل واحد منهم.

ترددت مجددًا هتافات الرجال بالشكر لسيدهم: – زاد الله في ملكه.

تقدم اثنان من أمناء الخزانة في موكب الوالي يمسكان بعناني جواديهما، واقتربا من كبير الياوران. كان واحد من الجياد يحمل فوق ظهره الأثواب، والآخر يحمل خُرجًا مملوءًا بالعملات المعدنية. أخذ كبير الياوران ثوبًا من الديباج المذهب وقدمه إلى قائد الحصن الذي أقبل يرتديه وهو يردد بفخر كلمات الشكر والثناء والمديح لعزيز بك. ثم بعد ذلك كلف كبير الياوران أحد أمناء الخزانة بأثواب الحرير، وكلف الآخر بأكياس النقود وصعد مع قائد الحصن إلى أعلى أسوار الحصن، ثم بدأ يوزع المنح والعطايا كما أمر عزيز بك – ثلاث قطع فضية للجنود، وأثواب الحرير لأمراء المئة.

في هذه الأثناء كان عزيز بك يدور فوق ظهر حصانه حول تل الرؤوس المقطوعة، وهو يشير لرايم بك الذي رافقه مع الرجل الذي يرتدي ثوبًا بخاريًا مخططًا إلى رؤوس قادة عسكريين يعرفهم جيدًا من جيش قوقند، وهو يحكي لهما أي منصب كان يشغله كل منهم، والفظائع التي ارتكبها كل منهم في حق القاره تشوبان. كان رايم بك يصغي إليه باهتمام كبير، في حين أشاح الرجل ذو الرداء البخاري المخطط بوجهه عن هذا المنظر الشنيع، وكان فقط من حين إلى آخر يردد: "نعم، نعم سيدي"

На страницу:
6 из 7