
Полная версия
الأيام الخوالي: قصة حب مريرة وقعت أحداثها في تركستان
لسبب ما تسبب هذا السؤال في حالة ارتباك لدى حامد، فأجاب على مضض:
– لا أعلم شيئًا عن ذلك. أعتقد أنه لم يفعل بعد.
ثم التفت رحمت إلى أتابك رغبة منه في إشراكه في الحديث، وقال: لدينا في مرغلان فتاة.. يا الله من جمالها! يبدو لي أنه لا يوجد من يضاهيها جمالًا في هذه الأنحاء.
تجهم وجه حامد وقطب حاجبيه ونظر في عبوس إلى ابن اخته، فتابع رحمت دون أن يلحظ حالة خاله: في مدينتنا تاجر يدعى ميرزا كريم باي، وهو والد الفتاة التي أتحدث عنها. أظن أنك تعرف السيد ميرزا كريم، كان مسئولًا لمدة من الزمن عن الشئون المالية لخانية طشقند.
– كلا، لا أعرفه.
أصبح وجه حامد أكثر عبوسًا وتجهمًا، وبدا قلقه وتوتره جليين ملحوظين، في حين تابع رحمت:
– فناؤه هو المبنى الواقع عند زاوية محل الأحذية. إنه شخص مرموق جدًا، وله صلة بالعديد من أشراف طشقند ووجهائها، ربما كان يعرف والدك من بينهم.
أجاب أتابك: كل شيء ممكن. ولسبب ما ارتجف رغمًا عنه، كان واضحًا من وجهه أنه قلق، وبالرغم من هذا لم يلحظ رحمت أي تغير على وجهه، في حين لاحظ حامد فورة انفعالات أتابك. أترى كان ذلك ناتجًا عن الحديث الذي يدور بينهم، أم أنه مجرد حادث عرضي، لا نعلم بالطبع. ساد الصمت مجددًا بينهم لهُنيهة من الوقت.
– متى ستنزل ضيفًا عندنا يا أخي؟ – أخرج سؤال رحمت أتابك من حالة تفكيره: إن شاء الله.
فأصر رحمت: لا، يا أخي العزيز، عليك أن تقرر يومًا، هذا ما جئنا إلى هنا من أجله.
– لكن لماذا أزعجكم؟
– لا يوجد ما يزعجنا في هذا الأمر. إذا سمحت لنا، فسوف ننقلك من هذا الخان إلى منزلنا. وإلى أن يحدث ذلك اختر يومًا محددًا تنزل فيه ضيفًا عزيزًا علينا؛ يريد أبي حقًا التحدث إليك، وأن يسمع منك كيف تسير الأمور في طشقند.
أجاب أتابك: لا أرغب في الانتقال من هذا النزل، لكنني مستعد لزيارة والدك في أي وقت.
– شكرًا لك أخي العزيز، هلا حددت لنا يوم زيارتك من فضلك؟
– كما تعلم، ليس لدي ما يشغلني في المساء، ولكن إذا كان يناسبكم وقت آخر فلن يكون لدي خيار سوى الموافقة عليه.
قال رحمت: عافاك الله- دعني أسألك شيئًا آخر: هل من الممكن أن ندعو أشخاصًا غرباء لا تعرفهم إلى المجلس، ألا تمانع؟ أريد أن أؤكد أن هؤلاء أشخاص مقربون من دائرتنا، ومن بينهم، على سبيل المثال، ميرزا كريم قوتيدار(7).
شعر أتابك بالحرج مرة أخرى، لكنه حاول عدم إظهار ذلك، فأجاب: الأمر سيان بالنسبة لي.
وبعد تناول الأرز البخاري ودعه الضيوف ثم غادروا.
2. شاب جدير بابنة الخان
بينما كان أتابك يُحَيّي الضيوف الغرباء في منزل ضياء شاهيجي أخذ يتفحصهم بعناية. وعندما لاحظ ذلك صاحب المنزل بادر إلى تقديمهم إليه: أظنك لا تعرف هؤلاء السادة؛ هذا أحد أصدقاء والدك المقربين، ميرزا كريم قوتيدار، وهذا أكرم حاجي أحد تجار أنديجان(8).
كان ميرزا كريم يبدو في الخامسة والأربعين أو الخمسين من العمر، رجل وسيم ذو حاجبين سوداوين وعينين داكنتين، ومظهر جميل وأنيق، في حين بدا أكرم حاجي أكبر منه بعشر سنوات. تفحص أتابك ميرزا كريم مرة أخرى بعناية وقال:
– كم أنا سعيد أن تعرفت على أصدقاء والدي المقربين، شكرًا جزيلًا لك. ثم نظر إلى أكرم حاجي وميرزا كريم وواصل الكلام بأدب جم: لقد عهد إليّ أبي أن أبلغ تحياته الحارة إلى أصدقائه الأعزاء مثلكما.
– شكرًا لك، حفظك الله.
كان من بين الحضور الذين اجتمعوا في منزل ضياء شاهيجي على شرف أتابك حامد ورحمت وحسن علي بالإضافة إلى الضيفين اللذين قُدِّما للتو. بعد تقديم الضيوف بدأت عيون أتابك وقوتيدار تتلاقى بشكل متكرر. وما إن همَّ قوتيدار بفتح فمه ليسأل أتابك شيئًا ما، حتى بدأ أكرم حاجي وضياء شاهيجي حوارًا مطولًا لا ينقطع. ولكن عندما تلاقت عينا أتابك وميرزا كريم مرة أخرى سأله قوتيدار بابتسامة:
– أيها البِك، هل تتذكرني؟
فأجاب أتابك، وهو ينظر باهتمام واحترام إلى قوتيدار:
– لا يا عمي.
– كم عمرك؟
– أنا في عامي الرابع والعشرين.
قال قوتيدار وقد بدا كما لو أنه يحسب حسبة في ذهنه:
– بالطبع لا يمكنك تذكري. فعندما كنت أباشر أعمالي التجارية في طشقند، كان عمرك خمس أو ست سنوات تقريبًا. يبدو وكأن ذلك حدث منذ وقت قريب، وكأنني كنت أمس ضيفًا في منزلكم. في الواقع، مرت خمسة عشر أو عشرون عامًا منذ ذلك الحين. وها أنت الآن شاب يافع، حقًا إن الحياة تمر بسرعة كالسهم المارق.
– هل زرت منزلنا حقًا؟
– بل نزلت ضيفًا عندكم أكثر من مرة. أجاب قوتيدار، حينها كان جدك لا يزال على قيد الحياة.
في تلك اللحظة تدخل حسن علي الذي كان يجلس على مسافة منهما، ويستمع إلى حديثهما، فقال:
– حينما كان عمك يتردد على منزلنا، كنت لا تزال طفلًا صغيرًا، وقد اعتاد أيضًا أن يأخذك معه إلى الخان.
ابتسم أتابك في حرج ونظر إلى قوتيدار: آسف حقًا، لكن لا يمكنني تذكر ذلك.
كان قوتيدار على وشك أن يقول شيئًا آخر، لكن لم يمهله أكرم حاجي وسأل: وماذا يعمل والدك المبجل الآن؟
– إنه مستشار والي طشقند.
– وهل لا يزال عزيز بك واليًا على طشقند إلى اليوم؟
– أجل، بالضبط.
– أي بك؟ بل قل عزيز الراقص، صاح حامد فجأة وهو ينظر إلى أكرم حاجي ويبتسم ابتسامة ساخرة. منذ وقت قريب كان هذا "العزيز" يرقص أمام الضيوف لتسليتهم في احتفالات مسلمان قل الأعرج.
قال ذلك ثم جال بعينيه في فخر بين الحضور كأنما قال شيئًا غاية في الأهمية لا يعرفه الآخرون. وعلى ما يبدو أن كلمات حامد غير الموزونة قد بدت للحاضرين خالية من اللباقة، فأخذوا ينظرون إلى بعضهم في حالة من الذهول، أعقبها صمت تام لم يكسره سوى سؤال أكرم حاجي:
– هل صحيح ما يقال عن أن الوالي مفرط في الشدة؟
أجاب أتابك: لقد أصبت كبد الحقيقة؛ فلقد سئم الناس من قسوة عزيز بك.
لم يذهل رد أتابك أكرم حاجي فحسب، بل صدم الضيوف الآخرين أيضًا. فلقد بدا الاعتراف باستبداد راعي والده مثيرًا للدهشة والاستغراب بالفعل. لقد اكتسب عزيز بك سمعة بصفته واحدًا من أكثر طغاة خانات تركستان قسوة واستبدادًا، حتى إن قسوته على أهل طشقند قد صارت منذ زمن بعيد حديث الناس في فرغانة(9)، ينسجون حولها الأساطير والحكايات. لكن سؤال أكرم حاجي الموجه لابن أقرب الناس لعزيز بك لم يكن من قبيل الصدفة، بل كان مقصودًا؛ لاختبار أتابك. وما سمعه أكرم حاجي أثار ذهوله أكثر، ولم يفته أن يبدي اهتمامًا لمعرفة السبب وراء موقف أتابك: لكن بما أن والدك مستشار عزيز بك، فلماذا لا يوجه الوالي أحيانًا على الأقل إلى الطريق الصحيح؟
ابتسم أتابك وقال: أستميحك عذرًا، أيها المبجل، فعلى ما يبدو أنه ليس لديك فكرة واضحة بما يكفي عن منصب والدي. إن القيام بدور المستشار عندما يتخذ حكامنا قرارًا ليس مهمة مستحيلة. فعلى الرغم من أن والدي هو مستشار عزيز بك، بالإضافة إلى أنه يعد أقرب المستشارين إليه، فإنه يستمع إلى نصيحة والدي فقط في الأمور التي ليس لها أهمية خاصة. دعني أضرب لك مثالًا حدث مؤخرًا: في أحد ولائم الجمعة الخاصة أخذ أحد الرجال في مدح عزيز بك، وهنا اعترض شخص آخر: "ولماذا تبالغ في مدحه؟ عزيز بك ليس إلا مجرد غلام يرقص أمام أسياده". وصلت هذه الكلمات على الفور إلى مسامع عزيز بك عن طريق مخبر سري كان في مكان قريب. في اليوم التالي، استدعى عزيز بك هذين الرجلين إليه. أما الذي مدحه فقد حصل على منصب رفيع، في حين حكم على الثاني بالإعدام. كان والدي حاضرًا عندما حكم على الرجل بالإعدام، وعندما توجه إلى عزيز بك يسأله أي ذنب اقترفه ذلك الرجل كي يستحق الإعدام، كان رد عزيز بك أن صرخ في وجه السياف يأمره: "أخرجه في الحال". وعندما كرر والدي سؤاله ما كان من عزيز بك إلا أن "مازحه" قائلًا: ربما يريد الحاج أن يفتديه بنفسه؟"
– ولماذا لا يتوجه الناس بشكوى مكتوبة إلى الخان؟
– هل تعرف كم عدد الشكاوى التي أرسلت؟ – سأله أتابك. – لقد أرسلنا مع هؤلاء القوم الذين ظلمهم واضطهدهم عزيز بك عشر شكاوى. ما الذي يمكن أن نتوقعه من هذه الشكاوى إذا كان مستشار الخان نفسه يفوق عزيز بك في القسوة والاستبداد؟ ومع ذلك، بدأ عزيز بك في الآونة الأخيرة يتجاهل علنًا الأوامر والمراسيم الصادرة من قوقند(10). إن شكوانا كلها تستند إلى الأمل بأن "يظهر الطاعة لقوقند"، على الرغم من أن قوقند ربما تغض الطرف عنها. مهما كان الأمر، فقد سئم سكان طشقند من قسوة عزيز بك، ولا يعرفون إلى من يلجأون ليمد لهم يد العون.
هكذا بات موقف حاجي يوسف بك وآراؤه واضحة الآن للجميع، وخاصة لأكرم حاجي، ولهذا لم يعد أحد إلى مناقشة هذا الموضوع بعد ذلك، وتحول الحديث إلى شيء آخر.
كانت مأدبة الطعام قد أعدت على قدر كبير من العناية والاحترام للضيف العزيز. ومن وقت لآخر كان ضياء شاهيجي وابنه رحمت يتحدثان مع الحضور ويعرضان عليهم تذوق أطباق جديدة تلهب شهيتهم، ومع هذا لم ينجح ذلك في أن يجعل أتابك يخرج من حالة التأمل العميقة. ترى، فيمَ كان يفكر؟ من الصعب تخمين ذلك. لكن هذا هو ما كان يجذب الانتباه؛ فبينما كان غارقًا في أفكاره كانت عيناه تقع دون قصد على قوتيدار الذي كان يجلس في مواجهته، وإذا حدث أن نظر الأخير في عينيه، كان أتابك يحول ناظريه إلى أطباق الطعام. كانت حالة أتابك غير ملحوظة للضيوف الآخرين ما عدا حامد الذي كان يسترق النظر إليه ويراقبه باهتمام.
– أيها البك، أي المدن زرتها في تجارتك؟ سأله قوتيدار.
– لقد زرت العديد من مدننا، – أجابه أتابك. – حتى إنني زرت مدينة الروس سيماي(11).
– حقًا؟ هل زرت سيماي حقًا؟ – سأله ضياء شاهيجي في دهشة.
– كان ذلك في العام الماضي، لكن رحلتنا تلك تزامنت مع فترة غير مناسبة تمامًا، ولهذا السبب كان علينا تحمل العديد من المصاعب.
– يبدو أنك تاجر حقيقي، – قال قوتيدار بإعجاب، – لقد بلغنا من العمر ما بلغنا ولم نر مدننا الكبيرة، أما أنت فقد وصلت حتى سيماي الروسية.
فقال أكرم حاجي: كما يقولون إن في الحركة بركة.
في تلك الأيام، كان عدد قليل من تجار تركستان يمارسون التجارة في المدن الروسية، ولهذا فإن أتابك، الذي قد زار مدنًا خارجية قد أثار انطباعًا جيدًا لدى الحاضرين وحظي باحترامهم له. كان قوتيدار وضياء شاهيجي قد سمعا حكايات كثيرة عن الروس، وأرادا أن يتبينا حقيقة ذلك من أتابك حول ما رآه في سيماي.
فقال أتابك: قبل ذهابي إلى سيماي كنت أعتقد أن الأنظمة الحكومية جميعها في كل مكان تشبه أنظمتنا، لكن رحلتي إلى سيماي غيرت فكرتي حول هذا الأمر تمامًا، حتى إنني الآن أصبحت أرى الأشياء كلها من منظور مختلف. عليّ أن أعترف أن مبادئ أنظمتنا وأسسها مقارنة بالأنظمة الإدارية لدى الروس تبدو بائسة للغاية. لا أستطيع أن أتخيل كيف سيكون حالنا إذا استمرت حالة الفوضى والارتباك الحالية في مؤسساتنا. عندما كنت في سيماي تمنيت لو أن لي أجنحة أطير بها إلى بلادي، وأهبط مباشرة إلى قصر الخان وأحكي له بالتفصيل عن الإجراءات التشريعية كلها للحكومة الروسية. كم حلمت بأن الخان يستمع إلي ويستجيب لطلباتي، ويصدر مرسومًا بأن نسترشد بكل صرامة بالنظام المتبع لدى الروس، ومن ثم سيصير شعبنا في غضون شهر واحد على مستوى الروس نفسه، ولكن، للأسف، عندما عدت إلى دياري تيقنت أن أفكاري وتطلعاتي تلك ليست سوى أحلام سعيدة غير قابلة للتحقيق. فلا أحد يريد أن يستمع إلي، حتى إن كان هناك من يستمع، فسيغرقني على الفور في اليأس: "هل سيستمع إليك أحد من الخانات؟ وهل سيقوم أحد من الولاة بتنفيذ الأوامر؟" في البداية لم أرغب في الاستماع إلى هذه الكلمات، لكنني أدركت لاحقًا أنهم كانوا على حق. في الواقع، هل يستجيب الموتى إذا نودي "حي على الفلاح"؟
كان الجميع ينصتون باهتمام كبير إلى أتابك، وقد أدهشتهم أفكاره التي لم يسمع بها أحد من قبل. حتى رجال تركستان الحاليين الذين لم يكن يراودهم حتى في أحلامهم أن يهتموا لأمر الناس، لم يستطيعوا أن يبقوا غير مبالين أمام هذه الكلمات المثيرة التي تنبع من قلب أتابك النقي الصادق.
قال قوتيدار: لو كان لدينا حاكم مثل أمير عمر خان(12)، لكنا تفوقنا على الروس.
وأضاف ضياء شاهيجي: نحن المسئولون عن الوضع الحالي المؤسف.
رد أكرم حاجي مؤيدًا: هذا صحيح.
أراد حامد ألا يتخلف عن الآخرين فأضاف: إن الله تعالى أعطى الكافرين المال والثروة.
فقال أتابك: في رأيي إن تفوق الروس يكمن في وحدتهم وتضامنهم. إن صراعنا الداخلي الذي يبدو بلا نهاية هو السبب في تخلفنا يومًا بعد يوم. بعبارة أخرى، تبدو لي أفكار عمي ضياء شاهيجي المبجل صحيحة في البعض منها. لا يوجد بيننا أشخاص صالحون يدركون بوضوح خطورة الوضع الراهن، بل على العكس من ذلك، هناك من يفسد السلام ويخلق الصراعات، وبسببهم تتغلغل جذور الفتنة، وتنتشر في كل مكان، وتتشابك وتدفع الناس إلى مستنقع مليء بالكوارث.
ومثال على هذا ذلك العداء القائم بين قاره تشوبان والقبجاق(13). فكّروا معي، ما الفائدة والمنفعة التي قد تعود علينا نحن وعلى إخواننا القبجاق من جراء هذا الصراع؟ لا يفيد منها إلا المحرضون الذين يزرعون بذور الكراهية بين الشعبين. على سبيل المثال، هل يمكن اعتبار "مسلمان قل" شخصًا نزيها وغير متحيز؟ وماذا جلب إلى شعبه سوى إراقة الدماء؟ بسبب دوافعه وضغائنه الشخصية قام، بناءً على حجج واهية، بقتل صهره "شير علي خان"(14)، وأعدم نفسًا بريئة "مراد خان"، وتخلص من والي طشقند "سليم ساق بك"، الذي كان وديعًا مسالمًا مثل الحمل، ووضع طاغية مثل عزيز بك على رأس السلطة مكانه. ثم بعد ذلك، وبعد أن نصب نفسه الوزير الأول، أعلن ذلك الفتى الأرعن "خدايار" خانًا، وجثم هو فوق رقاب العباد. أما كان خيرًا لو أن "مسلمان قل" سعى إلى هدف أسمى، وقضى على الطغاة ومنح الناس حياة طيبة هادئة، أكان أحد ليعارض ذلك؟ لكنه بدلًا من ذلك رفع إلى السلطة عزيز بك المستبد الجائر الذي لم ير مثله في تاريخ طشقند كله.
من الصعب أن أصدق أن وحشًا مثل "مسلمان قل" قد أنجبته أم من بني البشر، وحتى يُقضى على هؤلاء الطغاة الذين استولوا على السلطة لمصالحهم الخاصة ويضطهدون الشعب بلا رحمة، فلا مفر لنا ولا مخرج إلا بالتخلص منهم، وأن نستبدل بهم رجالًا يسعون إلى العدل والخير.
واصل أتابك شرح أفكاره المبتكرة، التي لم يسمع بها أحد من قبل، وقد جلس الحضور جميعهم يحدقون فيه في دهشة فاغرين أفواههم. في الواقع كانت آراء أتابك حول أسباب الصراعات المستمرة وعواقبها صحيحة. وقد بدا أن استنتاجاته ساعدت الحاضرين على استيضاح مشاعرهم حول هذا الأمر عندما عبر علنًا عما يدور في خواطرهم ولم يجرؤوا يومًا على التعبير عنه بصوت عالٍ.
عندما خرج أتابك من المضيفة وذهب ليتوضأ قبل صلاة المغرب، أخذ ضياء شاهيجي يتبادل نظرات الرضا مع ضيوفه، ثم قال: إنه بالفعل ابن أبيه.
فأردف أكرم حاجي: بارك الله في عمره، إنه الأكثر ذكاءً ورجاحة عقل بين شبابنا. لو كان الأمر بيدي لجعلته خانًا. هل تلقى تعليمًا؟
فأجاب حسن علي الذي كان قلبه يفيض بالفرح من مدح سيده المحبب: لقد كان واحدًا من أفضل الطلاب في مدرسة "بيكلار بيغي"(15)، لكن والده أخرجه منها منذ ثلاث سنوات ليشتغل بالتجارة.
وقال قوتيدار: نعم، لقد مَنّ الله على هذا الفتى بنعم كثيرة.
أشاد الحاضرون جميعهم بأتابك، إلا حامد الذي ظل صامتًا ولم يشاركهم في ذلك، وبدا منزعجًا إلى حد ما، بل تغيرت تعابير وجهه تمامًا عندما سأل قوتيدار حسن علي إذا كان البك متزوجًا أم لا. فأخبره حسن علي أنه حتى الآن لم يجد الفتاة التي تناسبه، الشيء الذي رد عليه حامد بسرعة بقوله: يبدو أن سيدك لا ترضيه إلا ابنة خان– ثم بسخرية تخللت كلماته– فهذا النوع من الرجال بعد الزواج يظل طوال حياته يعذب زوجته.
لم يترك حسن علي هذه السخرية الغامضة دون رد، وأجاب مبتسمًا: لا أعرف إذا كان يريد الزواج بابنة الخان أم لا، لكنه ليس أقل من ذلك، وأعتقد أنه إذا كان لا يقبل أن يوجه لي، وأنا عبد مملوك اشتراه مقابل نقود، كلمة مهينة، فلا أظنه، طبعًا، يسيء إلى فتاة حرة، لا سيما وإن كانت زوجته. أعتقد أنه بعيد كل البعد عن ذلك النوع من الرجال الذين يتصرفون كالبهائم فيضربون زوجاتهم، ويتزوجون أكثر من واحدة، ويحولون حياتهن إلى جحيم، أخي الملا حامد.
كان تلميح حسن علي واضحًا للغاية، حيث إنه كان قد سمع من فم حامد نفسه أنه يضرب زوجاته أحيانًا بسوط من الجلد. ولهذا فإن العبارة الأخيرة لحسن علي جعلت حامد يشعر بالخزي أمام الجميع ولم يتفوه بكلمة واحدة. ألقى ضياء شاهيجي إلى صهره نظرة كلها عتاب واضح، وكأنه يقول له: "ألا يكفي؟"، ثم التفت إلى حسن علي وقال:
– نعتذر منك أيها الشيخ الكبير، إن ابننا حامد إنما جاء إلى هذه الدنيا فقط لكي يقول مثل هذه الأشياء المسيئة.
أما قوتيدار فقد بادر أيضًا إلى تأييد حسن علي: أنت على حق، أيها الأب. إن أتابك جدير حقًا بابنة خان.
لم يكن بوسع حامد إلا أن يظل صامتًا، لكنه ابتسم ابتسامة خبيثة ونظر إلى حسن علي.
بعد تناول الأرز البخاري كان حامد أول من غادر ثم بدأ الآخرون في المغادرة إلى منازلهم. كان طريق أتابك وقوتيدار واحدًا، ولهذا غادرا معًا. عندما اقترب قوتيدار من منزله أخذ يودع أتابك قائلًا: ننتظر تشريفك منزلنا غدًا بكل تأكيد. اتفقنا؟
– بكل تأكيد يا عمي.
– ها هي بوابة الخان هناك. ربما يجدر بك أن تبيت عندنا الليلة؟ ما رأيك؟
– شكرًا جزيلا لك، أتركك في صحة وعافية.
عندما ودعوا بعضهما وهموا بمغادرة المكان، خرج من زقاق مظلم قريب منهم شخص مدثر في ردائه وانطلق في الاتجاه الذي أتى منه أتابك وحسن علي.
3. البِك العاشق
كان خان المسافرين يغط في نوم عميق مع حلول منتصف الليل. قام حسن علي بفتح القفل اللولبي الطويل الموضوع على باب الحجرة، ودخل ثم أشعل شمعة، وبعد أن رتب السرير للبك وقف ينتظره. إلا أن أتابك لم يدخل. فقد كان في ذلك الوقت يقف بالخارج كما لو كان متجمدًا في مكانه. وقف متكئًا على العمود، وكأنه لا يعرف أن باب الحجرة قد فتح وأن الشمعة قد أضيئت، وأن الفراش جاهز.
– لقد أعددت لك الفراش، يا سيدي.
بعد هذه الكلمات دخل أتابك الحجرة وجلس بجانب السرير. كان حسن علي ينتظر أن يبدل البك ملابسه ويستلقي، لأنه أراد أن يأخذ الشمعة إلى الحجرة المجاورة. لكن أتابك ظل جالسًا على حافة السرير، وعقله غارق في الأفكار. كان حسن علي قد لاحظ أن سلوك أتابك قد طرأ عليه تغير خلال الأيام القليلة الماضية. وقد أثار سلوكه الغريب هذا على مدار الأيام الخمسة أو الستة الماضية الدهشة والحيرة لدى حسن علي. في الواقع، لم يكن أتابك الآن هو نفسه الذي يعرفه، فقد أصبح شارد الذهن، غير مكترث بالعمل.
تفحص حسن علي البك لبعض الوقت، إلا أنه كلما طالت مدة بقاء أتابك في أسر الفكر، كان صبر حسن علي يوشك على النفاد.
– "هل هناك ما يكلفني به سيدي؟"
بدا أن أتابك كان يصغي، ولكنه لم يستوعب السؤال، لأنه حينما رفع عينيه نظر إلى حسن علي وثبت ناظريه على نقطة واحدة، مما زاد من قلق حسن علي عليه. ولم يكن يعرف كيف يفسر شرود ذهن سيده. أخيرًا، انتفض أتابك كمن أفاق من النوم، ونظر إلى خادمه وقال:
– لماذا لا تذهب للنوم؟
– هل هناك ما يكلفني به سيدي؟
– ماذا عساي أن أطلب منك الآن؟ يمكنك الذهاب، وخذ معك الشمعة أيضًا.
أخذ حسن علي الشمعة وذهب إلى حجرته، التي كانت مجاورة لحجرة سيده، وكانت مكدسة بالأقمشة والأحذية والبضائع الأخرى. كان هذا بالضبط هو سبب وجود حسن علي هنا في هذه الحجرة من أجل حماية بضاعتهم. أخذ حسن علي يرتب فراشه وهو يقول في نفسه: "توبة."
كما قلنا من قبل فقد لاحظ حسن علي التغيرات التي طرأت على أتابك منذ حوالي أسبوع أو عشرة أيام، لكن قلقه عليه الآن تخطى كل حد. دفعته حالة سيده تلك إلى التفكير في أشياء مختلفة لعله يهتدي إلى سبب يفسرها. جلس الرجل العجوز على سريره وأخذ يداعب لحيته الرمادية وقد استغرق في أفكاره: أتراه قد وقع في مشكلة متعلقة بتجارته، أم أنه يعاني مشكلة صحية، لقد كان يأكل على مضض وبلا شهية في منزل ضياء شاهيجي، هذا هو السبب، ربما أصيب بمرض في هذه الأرض الغريبة.
إلا أن الشيخ العجوز لم يقتنع بأي من هذه التخمينات، لأنه كان على علم بحالة التجارة، وإذا كان سيده مريضًا فإنه كان سيشتكي بالتأكيد. وظل هكذا غارقًا في أفكاره وتخميناته وافتراضاته لفترة طويلة، لم يهده تفكيره إلى شيء، فقام وأطفأ الشمعة، فغرقت الحجرة في ظلام دامس. تلمس الرجل العجوز طريقه نحو الباب، ثم، محاولًا ألا يصدر صوتًا، فتحه وتسلل إلى الخارج بحذر، وأخذ يتلفت حوله. عندما اطمأن أنه لا يوجد أحد في المكان سار بخطوات هادئة، واقترب من حجرة أتابك، ثم توقف ونظر حوله في الفناء مرة أخرى. كان الظلام يسود المكان، وقد غط الجميع في نوم هادئ، كان يتخلله مع ذلك أصوات الخيول التي تجتر التبن في إسطبلاتها، وصياح الديكة في الجوار تتقاطع مع بعضها بعضًا. مال حسن علي بهدوء على باب حجرة أتابك لعله يسمع شيئًا. كان الصمت يسود الغرفة، ولا شيء فيها يدعو للقلق. بعد أن انتظر هنيهة، قرر حسن علي النهوض من مكانه، عندما سمع تنهيدة ثقيلة من الداخل. انتفض من مكانه، وقد لمع في عينيه وميض قلق لا ينطفئ.
قال في قلق: إن سيدي ليس على ما يرام، وحزم أمره وأمسك بمقبض الباب وهم أن يدخل على أتابك، لكنه سحب يده من على المقبض وهو يفكر: ربما لا يكون مريضًا. وقف مرة أخرى في حيرة من أمره، تنازعه نفسه إلى الدخول كي يطمئن، لكنه حاول كبح جماحها، فعاد إلى حجرته. لكن قلقه على أتابك بحلول هذا الوقت كان قد تضاعف عشرة أضعاف. فعلى الرغم من أنه بدل ملابسه وآوى إلى فراشه، لاحت أمام عينيه صورة سيده، ولم تسمح له بإغلاق جفنيه. بدأت تراوده الأفكار والهواجس، ويتردد في رأسه ما أمره به يوسف بك حاجي: "إن ابني لا يزال فتى صغيرًا، أما أنت فقد عشت حياة طويلة ورأيت الكثير وتعرف الكثير. وأنت مخلص لي أيما إخلاص. لذا فمهمتك الأساسية هي رعاية ولدي". وتتردد في أذنيه مرارًا وتكرارًا وصية والدة أتابك "أوزبك آيم" الممزوجة بالدموع: "لقد عهدت بك إلى المولى تعالى، وبابني إليك". وهكذا تلاشى النوم من عينيه تمامًا. نهض حسن علي من فراشه وارتدى الشابان(16) فوق ثياب النوم، وغادر غرفته، وجلس مرة أخرى بجانب حجرة أتابك.
كان الليل شديد البرودة، وكانت الريح الباردة تهب من الجهات جميعها وتتسلل إلى عظامه. جلس حسن علي شبه عارٍ، يرتعد من البرد. جلس غير مبالٍ ببرودة الجو وارتجاف جسده، مركزًا كل أفكاره إلى حجرة أتابك. أخذ يسترق السمع لبعض الوقت للأصوات الآتية من الداخل، ثم أخذ نفسًا عميقًا وابتعد عن الباب، وبعد أن سمع صوت أنفاس أتابك تخرج هادئة، تنهد بارتياح. على الرغم من أن هواجسه القلقة بدأت تتلاشى تدريجيًا، فإنه ولسبب ما لم يتحرك من مكانه، بل ظل جالسًا منكفئًا على نفسه من البرد. مر بعض الوقت وهدأ أخيرًا وكان على وشك المغادرة، عندما سمع من داخل الحجرة ما يشبه تمتمة نائم: "عيون سوداء، حاجبان كالهلال".
قال حسن علي: "آه"، ثم ألصق أذنه مرة أخرى بالباب. أصبح كله الآن آذانًا مصغية، وأصبح تركيزه كله موجهًا إلى الحجرة وإلى من بداخلها. لم يمضِ وقت طويل حتى استُؤنِفت التمتمة مرة أخرى: "وجه كوجه القمر، ونظرة مبتسمة، تهرب في خجل.. أواه".
تبددت مخاوف حسن علي الأولى جمعها حينما سمع تلك العبارة الأخيرة. وهنا أدرك أنه لا داعي لبقائه في البرد أكثر من ذلك، فقام من مكانه، ودخل حجرته وهو يهز رأسه ويقول في نفسه: – إن سيدي قد وقع في الحب.
فرش حسن علي سترته على فراشه، وتدثر باللحاف، وراح يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة: "هل حقًا وقع سيدي في الحب؟ وأين تراه قد رأى فتاة في مدينة غريبة؟ ومن تكون يا ترى تلك التي وقع في حبها إلى هذه الدرجة، حتى يهذي بها في نومه؟"
حاول النظر في هذا الأمر من تلك الزاوية؛ فقد شكك في المشاعر التي استحوذت على قلب أتابك. لكنه من ناحية أخرى تذكر تلك الكلمات التي كان يتمتم بها في نومه: "نظرة مبتسمة، تهرب في خجل"، ولم يستطع أن يفسر تلك التغيرات الدرامية التي طرأت على البك في الأيام الماضية سوى بوقوعه في الحب ولا شيء سواه. أخذ الرجل العجوز يوازن بدقة بين تخميناته المختلفة. وعلى الرغم من أنه لم يكن واثقًا في حقيقة وقوع سيده في الحب، الا أن كلماته تلك "نظرة مبتسمة، تهرب في خجل"، كانت تتردد مرة بعد مرة في ذهنه. كان الليل يتراجع تدريجيًا قبل حلول الفجر، وبدأ النعاس يتسلل إلى حسن علي الذي تعب من كثرة محاولاته اليائسة لحل هذه المسألة. في النهاية قرر أن يعرف كل شيء من البك نفسه في اليوم التالي، وبعد أن هدأت نفسه خلد إلى النوم.
4. طقس مرغلان القاسي
أصبح طعام الفطور جاهزًا. جلس أتابك يخيم عليه الحزن فيما كان حسن علي يراقبه عبر استراق النظرات له بين حين وآخر. ساد الصمت لفترة وهما يشربان الشاي. أخيرًا، وجه حسن علي نظره إلى أتابك وقال بصوت خافت: "منذ مدة وأنا ألاحظ أنك تبدو حزينًا لسبب ما".
نظر أتابك إلى محاوره وأومأ برأسه موافقًا وقال: "لا أدري"، صمت هنيهة ثم واصل: "هل لاحظت ما أعانيه من يأس وحزن؟ حقيقة لا أدري، ربما يكون السبب هو الطقس في مرغلان، ربما الطقس هنا لا يناسبني".
أجابه حسن علي: "صحيح، هو كما قلت؛ طقس مرغلان مروع. تأرجح مزاجي أنا أيضًا صعودًا وهبوطًا خلال اليومين الماضيين. إذا لم نغادر مرغلان سريعًا، أعتقد أن خطبًا سيئًا سيحدث لي".
بعد أن قال ذلك، رمق حسن علي أتابك بنظرة ثاقبة وهو يفكر ما إذا كانت الافتراضات القائمة على أضغاث أحلام أتابك الليلة الماضية صادقة، فإن اقتراح الرحيل يجب أن يكون له وقع قوي على سيده ويكشف حقيقة الأمر. شعر أتابك أنه أمام طريق مسدود. ووجد صعوبة في الإجابة، ثم قال:
– سنغادر.
ثم فكر قليلًا وأردف: "في كل الأحوال لن نستطيع الاتفاق مع التجار على السعر؛ فقد عرضوا أسعارًا منخفضه للغاية ولهذا السبب، ربما يجب علينا البقاء لعدة أيام أخرى؛ في الحقيقة لا أعرف".
قرر حسن علي أن هذه المغامرة قد وصلت إلى نهايتها المنطقية، وعندما استمع إلى هذا الرد من سيده بالكاد أخفى ابتسامته. ثم ساد صمت طويل بين الرجلين. كان حسن علي في حيرة شديدة بين رغبته في مواصلة الحديث في الموضوع أو تركه. كان يعد نفسه مؤتمنًا موثوقًا به وخادمًا أمينًا، ويتعامل معه بصفته ابنًا له، ولذا قرر أخيرًا التحدث بصراحة مع سيده الشاب.
– ابني أتابك …
– تحدث عما يجيش بصدرك.
– أخبرني ماذا أعني بالنسبة لك؟
لم يفهم أتابك ما يرمي إليه حسن علي ونظر إليه بعيون متسائلة وقال مبتسمًا: "أنت؟ على الرغم من أنك لست أبي، فإنك الرجل الأكثر قربًا وإخلاصًا ووفاءً لي؛ تحبني بلا غرض حب الأب لابنه بكل تفانٍ. وبعبارة أخرى أنت أبي الروحي".
– "أحسنت يا بني. هذا تحديدًا هو الجواب الذي كنت أتمنى سماعه. والآن اسمح لي بصفتي عبدًا مخلصًا لك، أو كما قلت أنت بصفتي أباك الروحي أن أسألك: هل يتمنى الأب أي ضرر لابنه؟ أجبني يا سيدي؟"
أصابت أتابك الرعشة من وقع السؤال غير المتوقع ثم أجاب:
– على الرغم من أنني لا أفهم نواياك يا أبي، سأجيبك أنه حتى يومنا هذا كنتَ أبًا ليس لي فقط بل لكل عائلتي، وكنتَ دومًا تتمنى لنا الخير ولا شيء غيره".
واصل حسن علي وكأنه يصر على استكمال حديثه: "ربما كان الأمر على هذا النحو في الماضي، أما الآن، وخاصةً أنت …"
"خاصة أنا؟ وضح من فضلك"
"يبدو أن ثقتك بي قد نفدت، وأود أن أعرف ما الخطأ الذي ارتكبته بحقك؟".
رد أتابك منزعجًا ولم تزل علامات الدهشة لا تفارق وجهه: "إنك تتحدث بغرابة شديدة". "ما الإثم الذي ارتكبته ليجعل ثقتي بك تهتز؟ ان هواجسك لا مبرر لها. وسوف أظل دومًا في حاجة إلى وجودك بالقرب مني، وإلى رفقتك الطيبة وإلى نصائحك. وإني على ثقة أنك ستبقى أمينًا على ثروتي وأسراري كما تحافظ الأم على جنينها في رحمها. يجب أن تعلم ذلك جيدًا، يا أبتِ".
"لكن لسانك يقول شيئًا وقلبك يكشف أشياء مغايرة تمامًا يا بني"
قال أتابك، وقد بدأ صبره ينفد من استمرار هذا العتاب المتبادل: "أنت مخطئ يا أبي".
– أنا لست مخطئًا، بل على العكس من ذلك، أنا واثق من أنني على حق.
– إذًا ما دليلك على أن كلماتي تتناقض مع أفكاري وما في قلبي؟
قطب حسن علي حاجبيه بحزن ونظرات ملؤها الشعور بالإهانة: "أنت تحتفظ بسر، تخفيه عني".
– "تقصد أنني أخفي سرًا عنك؟"
رد حسن علي: "نعم، وإذا كان ما تقوله حقًا وصادقًا، وإذا كنتَ تعتقد أنني جدير بثقتك، اكشف لي عن سرك هذا".
تغير وجه أتابك واختفت علامات الغضب وتمالك نفسه وابتسم قائلًا:
– إذًا، أنت تعتقد أن لدي ما أخفيه عنك."
– نعم، لديك سر تخفيه.
– في هذه الحالة، أرجو أن تشاركني اكتشافك هذا وتخبرني بما تعرف.
رفع حسن علي فنجانه وارتشف بعض الشاي ثم بدأ يحكي؛ قال: "منذ وصولنا إلى مرغلان، أصبحت يا سيدي في حالة مزاجية غريبة ومتقلبة. وعلى الرغم من أنك تعلل ذلك بأنه بسبب طقس مرغلان السيئ، فقد عرفت أن الأمر على غير ذلك".
كان أتابك مضطرًا لإبعاد وجهه عن حسن علي، الذي كان يرمقه بنظرة ثاقبة. بدا الأمر كما لو أن هذا الرجل العجوز مكشوف عنه الحجاب؛ يرى كل شيء ويمكنه من خلال النظر إلى تعبيرات وجهه أن يرصد كل ما يخفيه من أفكار ومشاعر مكنونة ويفهمه. ولما شعر السيد بوقع نظرات خادمه، قال وهو يتحسس جبينه: "حسنًا، أكمل."
قال حسن علي بنبرة الواثق في صحة كلامه: "أنت تحاول إخفاء سرك عني، حسنًا، ربما لديك الحق في إخفائه، لكن هل من الممكن الوصول إلى الهدف بهذه الطريقة؟"
احمر وجه أتابك خجلًا، ونظر إلى الأرض، وبدا كما لو كان قد افتضح أمر ارتكابه خطأ فظيع. فيما لمع وجه حسن علي وارتسمت عليه ملامح الاهتمام الأبوي، وقال بصوت عطوف حنون كعادة الشيوخ الكبار في السن، وكأنه يحاول التخفيف عن سيده ومساعدته في التخلص من العبء الذي على كاهله: "لا شيء يدعو إلى الخجل يا بني؛ فالحب هو السعادة الكبرى، وجوهرة القلب التي يحظى بها عدد قليل جدًا من الرجال في حياتهم؛ وفي الوقت نفسه، فهو كثيرًا ما يكون سببًا في الكثير من الشقاء والشرور؛ ولهذا السبب يجب أن تسيطر على روحك، وتظهر قدرًا من الإرادة القوية وتحاول ألا تفكر فيه، وأن تنساه".